رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمد شمروخ يكتب : إعلانات الأطفال واستثمارات الألم

بقلم : محمد شمروخ

لا أشعر بالارتياح مطلقا لاستخدام الأطفال في الإعلانات التى تطلب تبرعات لمستشفيات علاج السرطان أو الحالات عسيرة العلاج، سواء كان هؤلاء الأطفال من الذين أصابتهم بلواء المرض أو كانوا من الأصحاء الذين يتم استغلالهم ليقوموا بتمثيل أنهم يعانون من المرض، بينما هم في الحقيقية ليسوا أكثر من موديلات إعلانات جرى تدريبهم على أداء هذا الدور وكأنهم يعانون بالفعل منه، بدون أن يدرك المشاهدون أنهم يقومون بعمل تمثيلى داخل الإعلان.

ففى الحال الأول هو نوع من تحميل الطفل عناء الإعلان عن نفسه بإهدار لحم وجهه تسولا واستجداءً فوق معاناته من آلام المرض، وهذا لعمرك انتهاك عمدى لطفولته واستغلال قميء لمرضه واستثمار صفيق لآلامه، فلو استلزم الأمر أن ننتظر استجداء طفل مريض بالسرطان ليعالج من تبرعاتنا، إذن لصرنا نحمل في صدورنا قلوبا كالحجارة أو أشد قسوة.

يمتهنون الطفولة البريئة في إعلانات تجارية

وأما إن كان الطفل الذي يظهر في الإعلان مجرد موديل، فالتجربة مريرة أيضا وهى نوع من الخداع الذي يصل للنصب العلنى، لأن الأمر لا يحتمل تمثيلا، فهناك فرق بين أن يقوم طفل موهوب بدور مريض بمرض عضال في فيلم أو مسلسل أو أى عمل درامي، وبين أن يطلب منه تقديم ذلك في إعلان تلفزيونى ولو كان الغرض شريفا كطلب تبرعات من أهل الخير لعلاج اطفال السرطان.

فأى خير في مجتمع ينتظر أن نتسول منه تبرعات لأطفال مصابين بأمراض خطيرة حتى يصل الأمر لاستجداء وتسول بهذه الطريقة؟!، أفلا توجد ثمة وسيلة أخرى لجمع التبرعات بعيدا عن استعراض الآلام حقيقة أو تمثيلا دون الحاجة  لاستدرار عواطف الناس واستسكاب دموعهم ليمدوا أيديهم إلى جيوبهم ليخرجوا أى شيء للتبرع؟!.

بل وأزيد في الأمر فإن استغلال الأطفال في مثل هذه الإعلانات لا يقل عندى عن الوقوف بالأطفال في إشارات المرور والميادين وعلى النواصى لممارسة التسول بادعاء عاهات حقيقية أو مفتعلة.

وكما أن التسول صناعة وتجارة لا تقل عن أى صناعة وتجارة أخرى لها مواردها وأصولها وخصومها وموردوها ووكلاؤها ومخططوا توزيع أنشطتها، فكذلك إعلانات طلب التبرعات التى لا تتورع عن انتهاك براءة الأطفال وإدخالهم في عملية تتجاوز الاستدرار، إلى الاستجداء، إلى الابتزاز.

ربما لديك معلومات عن عصابات تشغيل الأطفال في التسول، لكن قد لا تتوافر عندك معلومات عن (بيزنس الابتزاز الإعلانى) باللعب على عوطف الناس باستغلال تلك الزهور البريئة في الإعلانات.

يستغلون الأطفال في التسويق لجمع التبرعات

فهل تعلم أنه لا شيء يقدم مجانا في إعلانات التبرعات وأن الإعلانات تلك، تخضع لقواعد القانون التجارى بكل ما فيه من جفاء ونفعية وحسابات مكاسب وتوزيع أرباح وتوسيع نشاطات كأى مشروع استثمارى يقدم عليه رجل أعمال براجماتى انتزع قلبه ووضع مكانه آلة حاسبة لا تعرف سوى عمليات الجمع والطرح والضرب والقسمة وإخراج النسب والعمولات؟!

ذلك لأن المجتمعات التجارية سيطرت عليها (أخلاقيات التسويق) تبعا لفرض قواعد (اقتصاديات السوق) التى تقف وراءها قوى جبارة تحميها وتعززها، فجرى على أساسها تسليع كل شيء وتحويل أى قيمة إلى مقدار مالى، وما لا يحقق به ربح فورى أو مؤجل، فلا قيمة له مهما كان.

يجرى هذا في كل مجال، اقتصاد، علوم، طب، فنون، آداب، أبحاث، دعاية، تسويق.

فالقابلية للاستثمار والترويج هى فقط المرجعية الأولى والأخيرة!.

فالمجتمع الراسمالى التجارى قد أصيب بالشره تجاه جمع المال، فقد أصبح الخبراء المثمنون ليسوا فقط في مجالات الاقتصاد التقليدية، بل منتشرين في كل المجالات التى يمكن أن تأتى بالربح السريع فصارت لهم الكلمة العليا والحاكمة والفاصلة.

هذا ليس سمة مجتمعنا فقط بل صارت سمة للمجتمعات البشرية وهى تشرب شرب الهيم، بعد أن صار النموذج الاستهلاكي (الترفيهي) هو المسيطر والمفروض فرضا على المجتمع البشري المعاصر.

وكم من حملة إعلانية في مجال جمع التبرعات لمرضى السرطان وغيرهم من ضحايا الحوادث والحرائق، توقفت أو فشلت، بسبب تعثر عمليات المساومة والمفاوضات على الأجور بين المنتجين والمخرجين والنجوم (الكبار) الذين يبدون للناس وهم يخاطبونهم بالاستجداء، فلا خطوة ولا شروع في عمل قبل أن يحصلوا على أجورهم مقدما قبل أول استدارة للكاميرا.

لكن (والشهادة لله) فكثير منهم (ومنهن) لا يبالغون في الأجور، فعسى أن يحسب الفارق باقيا لهم في الآخرة وهنيالك يا فاعل الخير والثواب!.

معلومة على جنب: (اعلم أيدك الله وأزال عنك الغمامة، أن كثيرا من النجوم – الكبار-  رفضوا تقديم إعلانات من هذا النوع بسبب تدنى العروض بالنسبة لما سمعوا أنه حصل عليه أمثالهم أو الأقل منهم، مقابل كلمتين بصوت هادى حزين قبل أن تفر الدمعة من عيونهم!)

(…………………)  أرجوك ضع مكان النقط كل ما تقدر عليه من سباب.. لكن في سرك!

ولكن لو دققت النظر لعلمت أنهم محقون في ذلك فشركات الإعلانات لا تترك مليما من مسحتقاتها لدى الجهات التى ترعى الإعلانات ووصلت الخلافات إلى تدخلات حاسمة على مستوى قيادات إعلامية كبرى، وأحيانا تصل إلى جهات تحقيق رسمية عليا ولكن كان يتم (لم الدور) حتى لا يبدو دعاة الخير بمثل هذه الصورة المادية البشعة التى تتنافى مع المبدأ المغرق قي المثالية الذى تقوم عليه الحملات.

يا أيها السادة يمكنكم استغلال الأطفال في إعلانات عن (الشيكلتس والبنبون ومعجون الأسنان)، فمهما مورس فيها من مبالغة أو حتى خداع، سيكون مقبولا لاسيما بعد سيطرة العرف الإعلانى على أخلاقيات التسويق والدعاية التى يتفق فيها كل من المعلن عنه والمعلن له والمعلن عليه، على أن هذا الخداع ما هو إلا نوع من الطرافة، لكن مع أطفال السرطان والأمراض المستعصية لا يمكن تحمله ولا القبول به.

أعتقد أن حملة إعلانية بالطرق البسيطة المباشرة ولو بالكتابة فقط دون الاستعانة بنجوم أو أطفال ستكفى لحصد التبرعات بمبالغ كبيرة ستحقق المراد، لكن بشرط أن تذهب كلها للغرض الذي خصصت من أجله، خاصة أن كبار الشخصيات الذين دأبوا على بذل التبرعات لا يحتاجون إلى إعلانات وليس لديهم وقت لمتابعتها، بل يكتفون بتحرير شيكات فورية بمبالغ معتبرة للمندوبين، وطبعا هم يستحقون الشكر والتقدير على ذلك حتى ولو بعد خصم تلك المبالغ من نسبة الضرائب المستحقة عليهم!.

كما أن هناك كثيرا من عمليات النصب والاحتيال تتم باستغلال مآسى ضحايا السرطان والأمراض المستعصية، تماما كما يحدث في المواصلات وأمام المستشفيات وبعض المراكز التجارية التى يعمد إليها المواطنون من فئة متوسطى الدخل وما فوقهم كالتسول بالروشتة أو بعرض ورقة مطبوعة تحكى مأساة حاملها وكثيرون لا يعلمون أن وراء كثير من هذه الحالات عصابات منظمة تقوم بجمع الإيرادات اليومية وتوزيع اليوميات على جيوش المتسولين العاملين لحسابها.

كلنا نذكر ذلك الطفل وتلك الطفلة وكان كلاهما على حدة، يقدم إعلانا (يقطع القلب) ثم خرجا ليعلنا أنهما شفيا من المرض، ثم اكتشفنا أنهما لم يكونا من مرضى السرطان كما كنا نعتقد، لكن المبررات الأخلاقية التى قدمت كانت بأن هناك كثير من الأطفال مثلهما يحتاجون لتبرعات حتى يتم الشفاء، لكن مع ذلك بدت الخديعة مريرة فقط لأن الفارق الدقيق بين الكذب الدرامى والكذب الحقيقي هو يقين المتلقى وثقته في خلفيات العمل، فلا يمكن مثلا، أن نتهم سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة بالكذب وهى تبدع مع فريد الأطرش في دور المريضة في (لحن الخلود) بأنها كاذبة، بل نبكي ونمسح دموعنا ونصفق لها، وننتظرها لتقدم نفس الدور بنفس آهات الألم وسخونة الدموع وحرارة التصفيق في (أيامنا الحلوة) لكن الحال يختلف لو زعم أى شخص أن ما يعانيه حقيقة ثم يخرج علينا بمفاجأة بأنه كان (بيضحك علينا).

أيها الأعزاء: كفاكم وكفانا وكفاهم!.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.