رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

عصام السيد يكتب : معركة كشفت عورات المجتمع المصري

بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد

تابعت بقلق شديد المعركة الدائرة حول فيلم ( أصحاب و لا أعز ) المذاع على منصة نتفليكس ، و الحقيقة أن مصدر قلقى ليس الدفاع عن حرية الإبداع ، أو الانتفاض للحفاظ على قيم المجتمع ، فليس الانتماء لأحد الفريقين أو تبنى مقولات طرف منهما هو ما أقلقنى ، و لكن القلق نابع مما تكشف عنه هذه المعركة من عورات فى سلوكيات مجتمعنا المصرى و فى تعاملنا مع القضايا ، فنحن كأفراد و كمجتمع فى حاجة إلى علاج سريع من ظواهر مرضية خطيرة تنكشف مع مثل هذه الاختلافات ، أولها هو كم الغضب الهائل و الكراهية العميقة فى تعاملنا سويا ، كان ذلك واضحا و جليا فى تبادل الاتهامات و الشتائم و التخوين و استعداء السلطة من كلا الفريقين ، برغم أن المعركة المحتدمة لا تستحق كل هذه الضجة ، فلن يتسبب فيلم – مهما كان – فى انتشار المثلية أو إشاعة الفاحشة ، فكيف بفيلم على منصة خاصة لا يشاهدها إلا من دفع اشتراكا ، و بالتالى فمهما كان حجم انتشارها فهو محدود نسبيا .

إلى جانب انها منصة خاصة و من يشترك بها يتحمل مسئولية نفسه ، و من السهل عليه إلغاء الاشتراك فيها و يريح رأسه من مؤامراتها على اخلاقياتنا ، أما اذا استمر فى متابعتها فوحده فقط يتحمل العاقبة ، و إذا كنا نخاف على أطفال المشتركين فيها أكثر منهم ، فعلى المنصة من الوسائل ما يكفل مراقبة ما يشاهده الصغار ، و يستطيع الآباء حظر بعض المواد ، كما أن كل الأعمال على المنصات تخضع لتصنيف عمرى و من المفترض ألا يشاهد الأعمال من يقل عمره عن المحدد للعمل ، و لكن الحملة على الفيلم – ككل الحملات السابقة على الافلام – ساعدت على الترويج له ، حتى ضاعفت عدد مشاهديه ، بعد أن قام  الكثيرون بـ ( قرصنة ) الفيلم ليشاهده القاصى و الدانى دون أية محاذير و دون مراعاة لعمر المشاهد !!  و هذا عكس ما كانت تهدف إليه الحملة المضادة للفيلم ، و لكن الحماقة أعيت من يداويها .

عصام السيد يكتب : معركة كشفت عورات المجتمع المصري
أصحاب ولا أعز .. مجرد فيلم يعرض على فئة محدودة من المشتركين

و الغريب فى الأمر أن من بدأ الحملة عضو موقر فى مجلس النواب ، استخدم فى هجومه عدة مغالطات ، ليس من المفترض أن تصدر عنه ، فلقد قال إن الفيلم يدعو للمثلية الجنسية ، و هذا غير صحيح من وجهة نظرى ، و قال أن الفيلم منقول و هو ما يخرجه عن دائرة الإبداع و ذلك مفهوم خاطئ ، و طالب وزارة الثقافة بمنعه ، و عندما تمت مواجهته أن لا ولاية للوزارة على المنصات الخاصة – و هى معلومة معروفة له بالضرورة –  طالب بمنع منصة نتفليكس من مصر كلها ، و قال إن روسيا منعتها ، و تلك معلومات محرفة ، فخدمة نتفليكس تغطى دول العالم كلها ماعدا الصين و سوريا و كوريا الشمالية – و ذلك لأسباب أيدلوجية أو تقنية و ليس لأسباب أخلاقية – و يبلغ عدد مشتركيها بشكل رسمى 208 مليون اشتراك ، و إذا علمنا أن بعض الاشتراكات تتيح لخمس أشخاص المشاهدة ، فعلينا أن ندرك أن مشاهديها لا يقلون عن ضعف هذا الرقم ، و برغم أن المنصة تلجأ فى الغالب إلى نوعية الأعمال التى تحقق لها رواجا ( افلام و مسلسلات الرعب / الجريمة / اللأبطال الخارقين / الموضوعات الاجتماعية الملتهبة ) فلم تقم أى دولة بمنعها مادامت غير مفروضة على الافراد و إنما يشتركون بها بمحض إرادتهم . و كان الأجدر بالسيد النائب مناقشة كيف نرقى بوعى الناس ليرفضوا مثل هذه الأعمال بدلا من فرض وصاية عليهم فيما يشاهدونه ، أم أن الوعى يخيف البعض ؟

عصام السيد يكتب : معركة كشفت عورات المجتمع المصري
الرعب سمة بعض أعمال نيتفلكس

أما روسيا – التى روجت قنوات الإخوان أيضا أنها حجبت المنصة و مصر لم تفعل – فلها أعمال من إنتاجها مذاعة عليها ، و  لكن فى نوفمبر الماضى نشب خلاف بينهما  استدعى تحقيقا ، حيث أن القانون الروسى يحتم ألا يشاهد بعض الأعمال من هم أقل من 18 سنة ، بينما المنصة أتاحتها لمن هم فوق 16 سنة .  و الإجراء المتبع فى مثل هذه المخالفات هو الغرامة و ليس الحجب . و قد أفادت نتفيلكس فى التحقيقات أن تصنيفها العمرى لتلك الأعمال كان صحيحا و لم يكن مخالفا للقانون الروسى .

و الحقيقة أن روسيا لها خلافات متعددة مع المنصات الغربية – و منها نتفليكس – فبعد ان قدمت منصة HBO مسلسلا عن مأساة انفجار مفاعل تشيرنوبل رأت السلطات الروسية أنه مسيئ لها فقامت بإنتاج فيلم عن نفس الموضوع يتبنى وجهة النظر الروسية ، و خلاف مع منصة OSN بسبب مسلسل يدور حول التهجير القسرى إلى سيبيريا لملاك الأراضى فى فترة حكم ستالين رأت فيه الأجيال القديمة إنه يسيئ للثورة الشيوعية ، أما نتفيلكس فتضم فيلما تسجيليا طويلا عن صراع أوكرانيا للالتحاق بالاتحاد الأوروبى ، و الفيلم يدين التدخلات الروسية لمنع هذا الالتحاق والذى يكاد أن يتسبب فى الحرب التى تكاد تشتعل الآن بين روسيا و المعسكر الغربى. إذن فخلافات روسيا مع المنصات لها خلفيات سياسية و لم يكن من أجل عيون الأخلاق قط ، و برغم هذا لم تقدم روسيا على منع أى منصة بل على العكس فهناك اتفاق سيتم تنفيذه من مارس القادم يقضى بان تضم نتفيلكس 20 محطة تليفزيون روسية ، و بهذا ينضم لها أكثر من 100 ألف مشاهد يومى عدا مشتركيها ، فعن أى منع يتحدثون ؟

عصام السيد يكتب : معركة كشفت عورات المجتمع المصري
نيتلفكس لم تمنعها روسيا

و أيا ما كان موقف روسيا من نتفيلكس فالسؤال الذى أرقنى : لماذا انفعل السيد النائب بسبب هذا الفيلم بالذات و ادعى أنه يروج للمثلية الجنسية و هناك العشرات مثله تم طرحهم فى مصر سواء من انتاجات أجنبية او مصرية ، فهل كانت تلك الأعمال تروج لها أيضا ؟ هل بناء على وجهة نظر العضو الموقر علينا أن نمنع فيلم (عمارة يعقوبيان)النائب الام ؟ ، هل علينا أن نحاكم عادل إمام ايضا لأنه شارك فيه ؟ و إذا فعلنا هذا بضمير مستريح فماذا نفعل مع لأديب نوبل نجيب محفوظ ، هل نصادر روايته (السكرية) لأن أحد أحفاد السيد أحمد عبد الجواد كان مثليا ؟

يجب أن نسأل أنفسنا أولا : هل أى عمل يتناول نقيصة فهو يروج لها ؟ ، لو الأمر كذلك فعلينا أن نمنع أفلام الخيانة الزوجية و أفلام المخدرات و أفلام الجريمة و أفلام الجاسوسية و أيضا الأفلام التى تناقش الإرهاب . و علينا أن نقدم دراما كل شخوصها من الملائكة أو نجنح فقط إلى التسلية و لا نناقش أى مشاكل مسكوت عنها ، باختصار ندفن رؤوسنا فى الرمل احتراما لمشاعر السيد النائب الموقر الذى لم أره  منفعلا بهذا الشكل فى قضايا أهم ، مثل قضية مستحقات موظفى التليفزيون المعلقة منذ سنوات و التى اضطرتهم للتظاهر بسبب صمت المسئولين ، بل أين السيد النائب – و هو اعلامى – مما يحدث لزملائه الإعلاميين من ابناء القنوات الاقليمية ؟، أليست هذه قضايا أولى بإهتمامه كنائب للشعب ؟

عصام السيد يكتب : معركة كشفت عورات المجتمع المصري
هل يصح أن نعدم رواية السكرية.؟

و إذا تركنا المجلس جانبا بنوابه الذين يسارع بعضهم للهجوم على الفن و الفنانين من أجل ركوب الترند و السعى إلى للشهرة ،  فكيف نترك السادة الأفاضل من المحامين الذين يجرجرون عباد الله فى المحاكم بدعاوى غريبة و عجيبة ، و تظل قضايا الحسبة سيفا مسلطا على الجميع فى نوع جديد من الإرهاب سيقضى على قوانا الناعمة ، ألا يوجد تشريع واحد يحمى المبدعين من رافعى لواء الحفاظ على الأخلاق و الفضيلة ، كيف لقاض فاضل أن يقتطع من وقته و من وقت القضاء – الذين ينظر قضايا أهم وأجدر – أن يجلس ليناقش إذا كانت فنانة قد روجت للفحشاء لمجرد اشتراكها فى فيلم؟، و ما هو مقياس ( الترويج ) ؟ ، و ما مدى مسئوليتها عن أدوار باقى زملائها فى الفيلم ؟

لابد و أن يتحرك السيد النائب العام ليحد من نوعية تلك القضايا و يكفينا جهاز الرصد الذى أنشأه فهو يتابع انتظام حركة المجتمع و يحافظ على قيمه و لا نريد أوصياء على المجتمع و سلوكيات أفراده ، و إلا سنفاجأ بمئات الدعاوى القضائية تتهم أى شخص بالإساءة إلى القيم أو العادات أو التقاليد كما يراها كل صاحب دعوى ، و هذا ليس بمستبعد بعد تحريض إحدى العاملات بمجال الوعظ بالأزهر الشريف على توجه كل مواطن ضد الفيلم لتقديم بلاغ للنائب العام ، فأى جنون سنصبح فيه لو توجه ألف شخص ببلاغات للنائب العام كلما استاءوا من عمل فنى ؟ ، و أى تعطيل لعمل السلطات القضائية ؟

عصام السيد يكتب : معركة كشفت عورات المجتمع المصري
صحيح أنها خلعت ملابس الداخلية لكنها لم تظهر أي جزء من جسدها

المخيف بحق فى تلك المعركة هو رد فعل بعضا من الجمهور الذى تكلم عن الفيلم دون أن يراه معتبرا إنه مسيئ للأخلاق و القيم !! و ردد البعض أشياء مبتسرة مثل أن ( ممثلة تخلع ملابسها الداخلية ) فى حين انه – حقيقة – لم يظهر من جسدها شيئ على الشاشة !! و إنما أوحت لنا بهذا دون أن تكشف شيئا ، و كل أفلامنا على مدار سنواتها أوحت بمثل هذا المشهد بصور متعددة إما من خلف ستار أو أن نجد الملابس على الأرض ، و لم يثُر أحد أو يرَ في تلك المشاهد على اختلافها تحريض على الفسق!!

أما ما يحتاج إلى علاج سريع هو استخدام البعض فى تعليقاتهم ألفاظا تدخل تحت بند السب و القذف و تشويه السمعة يعاقب عليها القانون . من المؤكد أنهم لا يعلمون ان محكمة النقض مؤخرا  قد ارست مبدأً بمعاقبة صاحب كل تعليق على وسائل التواصل الاجتماعى قصد به كاتبه مضايقة شخص محدد ، فما الحال بسوء استخدام وسائل التواصل فى السب و الخوض فى الأعراض تحت دعوى الحفاظ على قيم المجتمع وأخلاقياته ، أى أخلاق فى هذه التصرفات ؟ ، ألا يجدر بالسيد النائب العام ردع البعض ليرتدع الجميع ، أليس هذا حفاظ أيضا على اخلاقيات و قيم المجتمع ؟

إننى أهيب بنقابة المهن التمثيلية بعد بيانها الذى أصدرته حماية لأعضائها و صونا لكرامتهم ، و بعد تحركها الذى تم ضد (يوتيوبر) اعتاد الإساءة للفنانين أن تتقدم ببلاغ للسيد النائب العام ضد من تجاوزوا لفظيا فى حق أعضائها ، ليعلم الجميع أن الفنانين ليسوا لقمة سائغة ، و أن الحفاظ على قيم المجتمع لا يتم بالسباب و لا بالألفاظ الجارحة، فربما تعلّم الناس كيف يعبرون عن آرائهم بشكل متحضر و كيف يختلفون بأدب ، فهذا ما سيغطى العورات التى انكشفت فى تلك المعركة .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.