المحتشمات العاريات بين هنا وهناك loop
بقلم : محمود حسونة
قال لنا أسلافنا أن (لكل مقام مقال)، كلمات ثلاث تؤكد أن ما يصلح هنا ليس ضرورياً أن يصلح هناك، وأن ما يقال هنا قد يعاقب عليه القانون هناك، وأن ما يقبله الناس هنا قد يرفضونه هناك، وهذا الكلام قد يكون صحيحاً عندما تكون بين هنا وهناك أزمنة حضارية، ويكون صاحب المقال هنا يختلف تماماً عن صاحب المقال هناك، وفي زمن العولمة وتحول العالم إلى قرية صغيرة لم يعد لهذا الموروث نفس الفاعلية والقيمة التي دفعت أسلافنا لقولها، فلم يعد مقبولاً أن يعلن الإنسان رأياً هنا ويعلن غيره هناك، أو يتبنى موقفاً هناك يناقض مواقفه هنا، وإلا فسيكون متلوناً متعدد الوجوه ولن تكون له أي مصداقية لا هنا ولا هناك.
وهذا الكلام ينطبق بشكل خاص على رجال السياسة ومشاهير الفن وأهل الإعلام الذين ينبغي عليهم توحيد مواقفهم وتصريحاتهم وأفعالهم أينما كانوا ووقتما تحدثوا بصرف النظر عن الوسيلة التي يطلون عبرها سواء انتمت إلى وسائل الإعلام التقليدي أو الحديث أو خلال المؤتمرات أو الندوات أو غير ذلك.
هذا لا ينفي أننا لا زلنا نتبنى (لكل مقام مقال) في بعض المواقف التربوية، فليس مقبولاً أن يخاطب الفرد والديه كما يخاطب إخوته، أو أن يخاطب الطالب أستاذه بنفس أسلوب مخاطبته لزميله، أو يتحدث الموظف مع رئيسه بنفس طريقة حديثه مع مرؤوسه.
بعض فنانينا يجيدون تغيير جلدهم عندما يسافرون خارج مصر، هناك يلتزمون بالتعليمات التي تملى عليهم وينفذون التوجيهات حرفياً ويراعون قيم المجتمع ولا يقبلون باستفزاز الجمهور، وهنا كل شيء لهم مباح ومستباح.
الاعتراضات والملاحظات والمطالبات والانتقادات التي تعرضت لها كلمتي (خمور وحشيش) في أغنية (بنت الجيران) كانت كفيلة بإعادة صياغة الأغنية بما يتوافق مع قيمنا، ورغم ذلك ماطل صناعها ووعدوا أحياناً بالتغيير دون تنفيذ، غير عابئين لا بالمبادئ ولا بالذوق ومنساقين وراء من يبحثون عن ما يثير الغرائز ويتجاوز القيم ويكرس الفلتان وينشر الفوضى الغنائية التي نعيشها حالياً.
ما كان صعب بل مستحيل تنفيذه في مصر، كان سهل تنفيذه في المملكة العربية السعودية، حيث ذهب (عمر كمال) للمشاركة في موسم الرياض وقدم مهرجان (بنت الجيران) مستبدلاً (أشرب خمور وحشيش) بـ (أشرب تمور وحليب)، ولم يكتف بأنه التزم وهذّب مهرجانه ونفذ المطلوب منه من دون أي جدل كما يحدث هنا، بل خرج على الناس ليقول أنه استبدل كلمات الأغنية لأنه يغنيها على أرض السعودية الطاهرة، وإذا كانت أرض مصر الطاهرة أصبحت مدنسة فهي مدنسة بهؤلاء الذين دنسوا الغناء وشوهوا الموسيقى واعتدوا على الذوق وأساؤوا لقيم الدولة التي علمت العالم كله القيم والغناء الأصيل.
ليس عمر (كمال وحده) الذي يغير جلده عندما يخرج من مصر، ولا مطربي المهرجانات فقط، ولكن فناناتنا اللاتي كن مصدر اعتزازنا، فوجئنا بهن يكرسن أنهن في مصر يستبحن قيمنا وفي الخارج يلتزمن بما يفرضنه على أنفسهن وليس بالضرورة أن يُفرض عليهن، ففي مهرجان البحر الأحمر السينمائي الذي أقيمت أولى دوراته في مدينة جدة، التزمن الحشمة في الملبس، لدرجة تتخيل معها أنهن فنانات غير اللائي شاهدناهن شبه عاريات في مهرجان الجونة السينمائي!.
الغريب أن فناناتنا لم يشغلهن في السعودية سوى الالتزام بقيم المجتمع هناك واحترام ذوق الشعب السعودي وتصدير صور لهن وهن يؤدين العمرة ويطوفن حول الكعبة، ولم يشغلهن خلال حضورهن مهرجاناتنا سوى كشف أكبر مساحة من أجسادهن، والدفاع باستماتة عن عريهن واتهامهن من يرفض ملابسهن بالتخلف!!
لا فرق بين (عمر كمال) وبين النجمات المحتشمات في السعودية العاريات في مصر سوى أن (عمر كمال) تم تحويله للتحقيق، وقامت عليه الدنيا عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، في حين أن فناناتنا لم يلتفت إلى فعلهن أحد.
مصر لن تنال منها أغنية ولا مهرجان ولا عري فنانة ولا وقاحة عارية، ولا كلمات نفاق لشعب آخر، والذين يسيئون إليها قلة ممن أنجبت، وفي مقابلهم هناك الكثير ممن لم تنجب من أبناء الشعوب العربية وغير العربية يدركون قيمتها ويعلمون أنها أكبر قدراً من كل المتلونين الذين يغيرون جلدهم طمعاً في مكاسب تافهة.