رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

هدم أسطورة كوكب الشرق بزعم (خيال) الكتابة الروائية !

مقالة جريدة (الجارديان) عن أم كلثوم باللغة الإنجليزية

كتب : محمد حبوشة

(يخلو الغرب من نظير لأم كلثوم، ولا يوجد على الساحة فنان يلقى هذا القدر من الحب والاحترام مثل ما تلاقيه أم كلثوم في العالم العربي) .. هكذا كتبت جريدة (الجاردين) في طبعتها الإنجليزية مردفة على لسان أحد محرريها: (تسمع صوت مقهى أم كلثوم قبل أن تراه، ينبعث صوت الكمان مثيرا العواطف ويشق الصوت الأسطوري مدخل حي التوفيقية في القاهرة، خارج المقهى، يجلس كل اثنين على مقاعد بلاستيكية يدخنان النرجيلة، ليظهرا كأقزام بجانب تمثالين ذهبيين ضخمين للمطربة التي منحت ألقابا عدة، منها (كوكب الشرق، أم العرب، هرم مصر الرابع).

سجلت أم كلثوم 300 أغنية تقريبا على مدار 60 عاما خلال مسيرتها الفنية التي احتوت أيضا على ست أفلام سينمائية، لنسمع اليوم أغنياتها عن العشق والهجر والشوق آتية من السيارات والراديو والمقاهي في العالم العربي بأكمله بعد 46 عاما على رحيلها، على رغم القصائد العربية الصعبة التي تغنت بها، أثرت أم كلثوم في عدد من أشهر مطربي الغرب، حتى وصفها (بوب ديلان) قائلا: (إنها رائعة.. حقا إنها رائعة)، وأدت كل من (شاكيرا وبيونسيه) حركات راقصة على أنغام موسيقاها، وقالت (ماريا كالاس)، إنها (صوت لا يضاهى).

وترد موسيقى وأنغام أم كلثوم الأسرة للقلوب، فضلا عن وطنيتها الصادقة على سؤال طرحته (فيرجينيا دانيلسون)، المتخصصة في علم الموسيقى العرقية، والتي كتبت سيرة حياة أم كلثوم، (هل يمكن أن تمثل حياة امرأة واحدة ومسيرتها، 60 عاما في المجتمعات العربية التي ظهرت فيها المرأة للعالم الخارجي أنها مظلومة ومقهورة وخفية، وليس فقط امرأة عادية، بل امرأة أثارت مزاعم مثليتها الجنسية ورفضها المعايير الجنسانية التقليدية، بعض الدهشة خلال حياتها؟، وهو ما التقطته المدعو (محمد بركة) لهدم أسطورة كوكب الشرق بزعم الكتابة الروائية، كما جاء في روايته القبيحة (حانة الست) – التي اعتمد فيها على رواية (كان صرحا من خيال) للكاتب اللبناني سليم نصيب – ليصور لنا عالما مغايرا عن سيدة منحت الموسيقى العربية روح الأصالة والمعاصرة، متناسيا مع سبق الإصرار والترصد أنه في أوائل عشرينات القرن الماضي، استغرقت أم كلثوم وقتا لتثبت موهبتها في المدينة الشاسعة، وبينما أُعجبت صفوة المجتمع بصوتها في القاهرة، فقد تعرضت للسخرية بسبب ملابسها وسلوكياتها الريفية الغليظة.

حانة الست .. رواية محمد بركة القبيحة

ولم يلفت نظره القاصر أنها تعلمت تدريجا التأنق في أفضل الملابس وتعاونت مع نخبة من فناني هذا العصر، على رغم شهرتها كمطربة صعبة الإرضاء، فقد تنافست أشهر شركات الإنتاج للتعاون مع أم كلثوم، بينما تفاوضت هى بذكاء لزيادة أجرها وشهرتها، وسرعان ما ضاعفت أجرها لتضاهي أشهر الفنانين على الساحة في القاهرة آنذاك، حتى أن (روبرت بلانت) عضو فرقة الروك (لد زبلين) عند سماع صوت أم كلثوم في مراكش عام 1970، قال: (لقد أُصبت بالذهول عندما سمعت صوتها للمرة الأولى بينما تتدرج في نزول المقامات لتنتهي بنغمة لم أتخيل مطلقا إمكان غنائها)، كان الأمر رائعا: (لقد زعزعت لدى مفهوم الغناء).

تقول دانيلسون في كتابها: (كانت صورتها الشعبية عبارة عن بناء واضح ومحكم، إلا أنه لم يكن مصطنعا ولا زائفا، فقد تعلمت أم كلثوم ببساطة أن تقدم نفسها بالطريقة التي تريد أن يراها العامة وأن يتذكروها بها، لنفهم أم كلثوم حقاً ليس فقط بوصفها مطربة ولكن بوصفها ظاهرة اجتماعية تستمر في التألق، علينا كما تقول دانيلسون (ألا ندرك الحياة وراء الأسطورة فحسب، بل الأسطورة الكامنة في قلب هذه الحياة)، فقد تميز صوتها بأنه صوت رنان، من أندر الأصوات النسائية، ويتمتع بقوة مذهلة، وهذا ما أغفله الروائي الشاذ فكريا (محمد بركة)، خاصة أن أم كلثوم غنت أمام جمهور هائل من دون ميكروفون وكانت ترتجل ببراعة تامة.

وقال عنها نجيب محفوظ، الروائي المصري الحائز نوبل (كانت تغني مثل الواعظ الملهم من جمهوره، فعندما يدرك الواعظ ما يصل إلى جمهوره، يمنحهم المزيد، ويتفانى فيه)، كان الجمهور يهتف لتعيد غناء المقاطع وكانت تستجيب لهم، لتستمر الأغنية ما بين 45 و90 دقيقة، وكانت تتنتقل أم كلثوم ببراعة بين نبرات الصوت وأبرزت المقامات بمهارة لينفجر التصفيق الحار، ويقال إنها لم تغن مقطعا واحدا مرتين بالطريقة ذاتها، وانتشرت روايات عن خلاء الشوارع وأماكن العمل من تونس حتى العراق بسبب اندفاع الملايين من الناس إلى منازلهم للاستماع إلى حفلها الموسيقى الذي يقام في أي مدينة عربية أو أوروبية، فقد جسدت أم كلثوم مثالا للوحدة العربية وأصبحت خياراً لا غنى عنه لدى السياسيين الأذكياء.

محمد بركة .. صاحب الرواية المسيئة

هكذا ينبغي أن نكتب عن كوكب الشرق التي ماتزال تطل برأسها كل يوم وليلة من تحت التراب لتمتعنا بروائعا الخالدة، وليس على طريقة (محمد بركة) الذي فجأني أنا كما فوجئ غيري من المعنيين بالتراث و الفن الكلثومي الخالد أن تقوم دار نشر مصرية بنشر وترويج كتاب قبيح المعنى والشكل والمضمون بعنوان (حانة الست) لمؤلفه المجهول اسما وتاريخا وعلما، والذي هو للأسف  مصري الجنسية، ليوجه لأم كلثوم جملة من الانتقادات و الاتهامات السخيفة من دون تقديم أي دليل مادي أو معنوي حول ادعاءاته المزرية، ومن ضمن ماقاله هذا (الدعي المعتوه) أن أم كلثوم حاربت كل المطربين والمطربات الذين عاصروها وفق نظرية (كيد النسا)، فيذكر أن أم كلثوم حاربت (أسمهان و فتحية أحمد و نور الهدى و فريد الأطرش و عبد الحليم حافظ و سعاد محمد و نجاة الصغيرة و محمد رشدي و منيره المهدية و غيرهم كثير، حتى أنها – بزعمه الأجوف – أوصلت عبد الحليم حافظ لمرحلة الجنون و التفكير بالانتحار .

عبد الحليم يقبل يد الست احتراما وإجلالا

كما أشار هذا المعتوه أن هناك قوة سياسية و دولية كبرى خفيه غير معروفة كانت تدعم و تقوي موقف أم كلثوم الشخصي و الفني .. كما أشار في روايته السمجة (حانة الست) هذه إلى قضايا أخرى تافهة بنفس هذا السياق، وهنا نطرح أسئلة مهمة تضامنا مع ماجاء على لسان الغيورين العرب على أم كلثوم: كيف سمحت مصر بنشر هذا الكتاب من داخل أرضها؟، أين هي الأوساط الثقافية و الفنية و الأدبية في مصر من هذه القضية الخطيرة؟!، هل من المعقول أن تقوم دول عظمى و كبرى و مؤسسات فنية و ثقافية مختلفة في جميع أرجاء العالم بتكريم فن أم كلثوم الخالد، ثم يظهر لنا شخص نكره من أبناء وطنها مصر ليسيء إليها وإلى تراثها الخالد؟!

أليس ظاهرا أمام الكل أن قصيدة الأطلال الكلثومية تم اختيارها من قبل اليونسكو هى أغنية القرن على مستوى كل العالم؟!، أليس معهد الكونسرفتوار للموسيقى العالمية اختار 24 أغنية من أغانيها من أفضل 100 أغنية على مستوى كل العالم في القرن العشرين؟!، ثم ماهي الغاية الحقيقية المرجوة من هذا الكتاب في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ مصر على وجه الخصوص، وتاريخ كل العرب على وجه العموم ؟!، لقد كانت حفلات أم كلثوم تستمر عادة 5 ساعات تقريباً، تضم 3 أغنيات طويلة، كان هدفها إمتاع المستمعين بالطرب وحالة المشاعر الجياشة التي تنغمس فيها النفس وتذوب في الموسيقى.

ولا تزال أم كلثوم تظهر بانتظام في وسائل الإعلام المصرية، إذ ينجذب المحبطون هربا من حالة البلاد المتردية الآن إلى موسيقى الزمن الجميل الذي تمثله أم كلثوم، وتجسدت أم كلثوم أمام العيون أخيرا بتقنية (الهولوجرام) في المملكة العربية السعودية، بينما يعرض منتجو موسيقى التراب – التي تعمد إلى دمج الحرية في الألحان مع الكلمات البسيطة – أجزاء من موسيقاها، ويواصل المغنون تقديم الأغاني من تراث أم كلثوم مثل (سناء نبيل) حفيدتها من جهة شقيقتها البالغة 17 سنة، والتي ستظهر في أحد العروض الموسيقية في مسارح (وست اند)، بعد أدائها المبهر في برنامج (آرابز جوت تالنت)، وترى سناء أن أغاني أم كلثوم لا تزال مناسبة للعصر الحالي، وتقول إنها (ليست للماضي فحسب، فعلى الرغم من أن الأغاني قد تكون قديمة لكنك تشعر دوما بأن الموسيقى حديثة، إنها تتجاوز حدود الزمن).

قالوا أنها رجل لولا أنها مسجلة في خانة الانثى

ربما ينزعج البعض من حضور أم كلثوم الدائم في الإعلام (ومنهم بالطبع محمد بركة)، إذ يرون أن ذلك يضيق الخناق على المواهب الشابة، وثمة من ينزعج بسبب مبالغات أغانيها القومية، كما يدعون أن طول أغانيها واستمرارها لساعات لا يناسب الأجيال التي نشأت وهى تستمع إلى أغاني شعبية لا تتجاوز مدتها ثلاث دقائق، ويصعب على الكثير فهم اللغة العربية الفصحى ومن ثم لا يستمعون إلى أغانيها بخاصة الأغاني الأقدم والأكثر تعقيدا، وربما كان هذا سببا جوهريا في أن ثمة محاولات عدة لطرح أسئلة مراوغة حول سيرتها الذاتية، فقد تحدت أم كلثوم الأنماط الجنسانية التي كانت سائدة في منتصف القرن الماضي في مصر من خلال صفقات عملها الصارمة، ومشاركتها الفعالة في الحياة العامة، ورفضها التخلي عن عملها مقابل الحياة الأسرية.

وعلى حد وصف الكاتب والناقد العراقي، موسى الشديدي، أم كلثوم، قائلاً (نحن لا نتحدث فقط عن النساء القويات أو ذات الطابع الذكوري في تاريخنا فحسب، بل نتحدث عنها بوصفها مطربة، وحين كتب مقالا لمجلة (ماي كالي) الأردنية التي تعنى بقضايا مجتمع الميم في محاولة لفهم رفض أم كلثوم التنميط الجنساني التقليدي، ذكر هذه المقولة للمفكر الفلسطيني البارز إدوارد سعيد: (خلال حياتها كان هنالك سجال ما إذا كانت أم كلثوم مثلية الجنس أم لا، لكن يبدو أن قوة أدائها وسحره جعلا الجمهور يتجاهل ذلك)، ويجدر بالذكر أنه مجرد الإشارة إلى مثلية أم كلثوم المحتملة في إثارة فضيحة، وأدت إلى حجب الحكومة الأردنية الموقع الإلكتروني لمجلة (ماي كالي)، ولقد  شعر الشديدي بتوجس من إثارة مثل هذه الادعاءات التي أثارها (بركة) في روايته التافهة.

تبين هذه الضجة مدى دفاع الناس بشراسة وضراوة عن أم كلثوم حتى بعد نصف قرن تقريبا من وفاتها، وهذا الفضل لا يرجع إلى حبالها الصوتية فحسب، بل أيضا إلى حرصها الشديد على خلق شخصية عامة فوق مستوى الشبهات، فقد أخذت أم كلثوم حذرها من الصحافة، وتأكدت من أن مجموعة مختارة من الصحافيين والمصورين يروون قصتها، فقد شكلت صورتها أمام الرأي العام بنفسها، وسعت إلى الموازنة ببراعة بين كونها المرأة القيادية المهيبة، والمسلمة المتدينة، والفتاة الريفية، والمدافعة عن اللغة العربية ورمزا للأصالة المصرية، ولذا فقد عنت العديد من الأشياء المختلفة لمختلف الأشخاص، وأتقنت هذا الدور ببراعة، كما كتبت دانيلسون، (لقد حاولت بكل جهد وثبات بناء صوت يزعم الملايين أنه صوتهم الخاص المعبر عنهم).

صوتها وحد الوطن العربي من المحيط للخليج

إن سيدة الغناء العربي التي كرمت من أكثر 24 رئيس دولة و أمير و ملك لا يمكن أن يخدش فنها هذا الافاك اللئيم، فهي أسطورة الغناء العربي والعالمي دون منازع حسب تقييمات كبرى المعاهد الفنية والموسيقية في العالم، ونحن (على قناعة مطلقة لالبس فيها) أن هذا الإمعة محمد بن بركة ماكان ليتجرا أن يصدر مثل هكذا قصة سمجه وسخيفة حول مطربة القرن أم كلثوم إلا إذا كنا نعيش حالة من التراخي من جانب نقابة المهن الموسيقية بالدفاع عن ابنة الفلاحين المعدمين التى لم تحصل على شهادة دراسية واحدة، والتي تدهورت غدتها الدرقية فصارت جفونها تليق بساحرة تسكن المقابر، وحين ارتدت نظارتها السوداء صباح مساء لتخفي جحوظ العينين، طبعت واحدة من أعجب الصور النمطية لعجوز لا يوجد ما يثبت أنوثتها سوى خانة (النوع) فى بطاقة الهوية، ومن هنا فإن أم كلثوم وفنها الخالد سيبقى علما خافقا في مصر وفي جميع أرجاء المعمورة، سواء رضى بذلك ابن بركة وغيره من سفهاء الأدب الرجيم أم لم يرضوا.

ولعلي الآن أسمع صوتها الشجي تقول: كنت وسأبقى سيدة غنائكم الذى صار من بعدى كئيبا يثير بضحكاته الهستيرية الصاخبة المزيد من الأسى، اخترت أن أطل عليكم فى هذا التوقيت بروحى أو شبحى، قرروا أنتم، حين نضجت فتياتكم بما يكفى ليتداولن عبارة: (رموا بى للذئاب وعدت قائدة للقطيع)، هذه المقولة التى يشتعل بها عالمكم الافتراضى هى التجسيد الرائع لخلاصة تجربتى فى الحياة، تلك التجربة التى لم تقدروها حق قدرها فتنظر لى أجيال جديدة على أننى مجرد مومياء ملكية أخرى تقبع بغرفة مظلمة (متحف الحضارة) والآن يا قومي: آن الأوان أن نحبها بطريقة جديدة عبر اكتشاف إنسانيتها وعظمتها ومواقفها الوطنية التي لاتنسى في تاريخ العرب، بدلا من أن ننساق وراء شائعات تطاردنها أو تفاهات تسعى للنيل منها وهى بين يدي خالقها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.