رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

شريهان.. عزيمة لا تلين وإرادة لا تُقهر

بقلم: محمود حسونة

شريهان لا تملك فقط مفاتيح دولة الإبهار، بل تحمل معها أيضاً مفاتيح خزائن القوة والإرادة التي لا تلين مهما كانت التحديات، ومهما تعاظمت السقطات وفاقت الأوجاع قدرات الاحتمال وتجاوزت قوانين الصبر الإنساني.

هذه السيدة تعرضت لما يشبه المؤامرة على هدمها والنيل من إنسانيتها وتكسير عظامها حتى تتحول إلى جثة تنبض. حياتها سلسلة من المآسي والآلام، بدأت منذ ولادتها عندما أنكرها والدها لتخوض والدتها معركة قضائية لإثبات نسبها، وبدلاً من أن تهدمها هذه الأزمة دفعتها للتحدي وبإرادتها اخترقت مجال الفن لتتوج ملكة على عرش الاستعراض، وتتحول إلى النموذج الذي يتهافت عليه ويدور في فلكه عشاق الفن من الشباب والفتيات.

ولأنها تجاوزت الحد شهرة والخط الأحمر في علاقاتها، كانت المؤامرة الكبرى عليها، والاتفاق على أن لا مجال لها لا في الفن ولا في الحياة، وكان القرار بالقضاء عليها من خلال حادث قيل أنه مدبر من قبل أحد الأجهزة بعد أن فاحت رائحة مطاردة ابن الرئيس لها، وبلا مبالغة تكسرت عظامها وخاصة عمودها الفقري وعظام الحوض ليصبح هيكلها العظمي غير صالح لحملها، وأيقن الجميع وقتها أن شريهان راحت بلا رجعة، أجرت عشرات العمليات الجراحية، وتم تثبيت العمود الفقري وعظامها بمسامير طبية، وكتب الله لها عمراً جديداً، وأدرك الجميع بأن شريهان لن تعود للفن وأن جسمها لا يستطيع التعبير عن موهبتها في الاستعراض.. أنا هي وبالإرادة الحديدية عادت ورقصت وأبدعت وأبهرت الدنيا في مسرحية ” شارع محمد علي”.

لم تتوقف رحلة شريهان مع الألم والتحدي عند هذا الحد، فقبل 20 عاماً أصيبت بسرطان في الغدد اللعابية، والذي لا يصيب عادة سوى واحد من كل عشرة ملايين شخص، وسلمت أمرها لرب العالمين وهي تحلم بالشفاء من هذا الخبيث اللعين، ولكن حلم العودة للفن تلاشى مع شدة خطورة المرض، فلا هي ولا جمهورها كانوا يتوقعون العودة، وبدأت رحلة العلاج في باريس، وخضعت لجراحة استمرت 18 ساعة متواصلة لإزالة الورم؛ بعدها خضعت لعدة عمليات تكميلية وصلت لقرابة 100 عملية، نظرًا لما تركته آثار العملية على وجهها، وعاشت سنوات وسنوات بين جدران غرف المستشفيات لا تستنشق سوى رائحة البنج والدواء، ولا تتمنى أكثر من نعمة الحياة وسط أسرتها، حتى أنعم الله عليها بالشفاء، لتؤكد أن رب العالمين يشفي أصعب الأمراض ويزيل أكبر الآلام عندما يريد الإنسان ذلك ويصلي ويدعو ويلتزم ويقاوم حتى يمن الله عليه ويهديه نعمة الشفاء.

شريهان عادت، وكأنها انتفضت ونفضت عنها كل غبار العذاب والمعاناة، فاجأتنا وعودتها ليست أي عودة، إنها عودة الغائب لسنوات طوال وكأنه لم يغب، عودة العائد من المرض وكأنه لم يمرض، عودة المعتزل وكأنه لم يعتزل، عادت وكأنها كانت معنا بالأمس، وكأن السنوات العشرين مرت على ملامحها بلا أثر، وكأنها كانت تقضي السنوات الثلاثين التي توقفت خلالها عن النشاط المسرحي والاستعراضي في قاعات التدريب والبروفات لتعود عفية قوية، لينة مرنة، مبدعة متجددة، متألقة متوهجة، ولتثبت أنها مازالت وستظل ملكة الاستعراض التي لم يستطع أن ينازعها أحد على مملكتها ويستغل سنوات غيابها ليسطو على العرش.

العودة تدريجية، وكانت المفاجأة في أول أيام رمضان الماضي حيث أطلت على الشاشة بإعلان لحساب إحدى شركات الاتصالات تحكي خلاله بالاستعراض رحلة المعاناة والنجاح بما فيها من محطات تآمر ومحاولات إقصاء، وكان تأكيد العودة ليلة عيد الأضحى عندما أطلت عبر منصة “شاهد في آي بي”، من خلال مسرحية “كوكو شانيل”، لتزيدنا انبهاراً بها وإعجاباً بارادتها الحديدية التي لا ولن تلين.

المسرحية أنتجتها (العدل جروب) ودعمتها هيئة الترفيه السعودية وكتب لها النص والسيناريو والحوار مدحت العدل، ولكن وفق فكرة شريهان التي اختارت الموضوع وشاركت في جميع مراحل التجهيز والإعداد، لتعود من خلال سيرة تتقاطع وتتمازج مع سيرتها، سيرة سيدة الموضة الفرنسية وسيرة سيدة الاستعراض المصرية، ورغم التباعد الجغرافي والتاريخي إلا أن الشخصيتان سيرتهما تتجاوز حدود التشابه وتقترب من التطابق. إنها سيرة الضياع والتيه والمعاناة والنجاح والمجد، سيرة الإصرار والتحدي والعزيمة التي لا تلين، سيرة من يعرفون ماذا يريدون ومن يدركون حجم التآمر عليهم، ومن يريدون تغيير العالم ويحررونه من القيود. 

كوكو شانيل حررت المرأة من قيود وأحمال وأعباء الموضة الكلاسيكية، وشريهان حررت الاستعراض من قيود النمطية، وكلاهما حررت نفسها من قيود الأب غير المسؤول وعواقب الطفولة المعدلة، ومن والمجتمع المتآمر على نجاح المرأة، والحبيب الأناني، لتنطلق إبداعاً ونجاحاً وتجديداً في الموضة وفِي الفن.

في أحد مشاهد المسرحية قالت شريهان على لسان كوكو شانيل ما معناه (لا يوجد في جسمي موضع لم يتألم ومكان لم يُجرح)، وهي هنا كانت تتحدث عن نفسها وتؤكد أن السيرة واحدة وأن هذه المسرحية ليست إلا عمل لتذكرة من نسي أو من حاول أن يتناسى.

نعم شريهان وكوكو شانيل صنعا مجداً ولكنه المجد المغموس بالدم والألم والمرض والوجع، ولعل شريهان تريد أن تصرخ وتقول لمن تربصوا بها بالأمس (كفاكم .. الناس تعرفكم وتدرك حجم مؤامراتكم.. اتركوني لفني ولأهلي وناسي.. كفاكم.)

[email protected]

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.