رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

(مبدع أضاعه قومه) !

بقلم : محمد شمروخ

مات إسماعيل ولى الدين

ومن هو إسماعيل ولى الدين؟

هو لمن يعرف أو لا يعرف إجابة عن هذا السؤال، واحد من الأدباء العظماء الذين آثروا العزلة أو حكموا على أنفسهم بها بعيدا عن الضجيج، مع أنه كان ملء السمع والبصر في السبعينات الثمانينات، وكان أديبا روائيا غزير الإنتاج تتنافس عليه أفيشات الأفلام، ولكنهم اختزلوا أدبه وإبداعه فيما تحول عن أعماله من أفلام مثل (حمام الملاطيلي ودرب الهوى وأبناء وقتلة وحارة برجوان والأقمر والباطنية ومنزل العائلة المسمومة) وغيرها من الأفلام التى أخذت عن رواياته.

اختزلوه كما اختزلوا نجيب محفوظ في أفلام الثلاثية واختزلوا أفلام الثلاثية في بين القصرين واختزلوا بين القصرين في (الحلو مخاصمنى شاهدة يامه)، والبعض قد يبتسمون سخرية من وصفى له بالأديب العظيم، لأنه لم يكن له جوقة تردد وراءه تراتيل المدح وأهازيج التعظيم وهم يضاهون به أدباء أوروبا وروسيا وأمريكا اللاتينية.

لكنه وصم بأنه مؤلف الأفلام الهابطة وهو اصطلاح انتشر في الثمانينات عقب عرض فيلمي (درب الهوى) الذي كتب قصته إسماعيل ولى الدين و (خمسة باب) وهو تمصير للفيلم الأجنبي الشهير (إيرما لادوس)، وكان قد سبق أن كتب ولى الدين قصة عن أشهر حى للمخدرات باسم الحى نفسه (الباطنية)، والتي تحولت إلى فيلم عام 1980 والفيلم أشهر من  تقديم تعريف عنه هنا.

فقد قوبلت هذه الأفلام بعاصفة نقدية في الصحافة وصار وصف (الأفلام الهابطة) لصيقا بعدد من الأفلام مما أدخل كثيرا من مخرجي وممثلى تلك الأفلام في أزمات نفسية ومالية طاحنة وخاصة بعد أن صدر قرار بمنع عرض فيلمي (درب الهوى، وخمسة باب)، ثم تبين بعد كل ذلك أن الحكاية برمتها حكاية صراع – على عدة مستويات – تمت ترجمته في افتعال مثل هذه المعارك، لكن في النهاية تم صدور حكم قضائي بإلغاء قرار منع عرض الفيلمين ولكن بعد فوات الأوان، ولكن الحملة حققت غرضها (تالت ومتلت) تجاه أطراف معينة في هذه القصة الغريبة!

** فلماذا تم إلغاء عرض الفيلمين؟!

* لكثرة المشاهد الجنسية ..!

** لا يا شيخ ..!

* للإساءة إلى سمعة مصر..!

** بالذمة إيه؟.

الخلاصة ما يهمنا هو ارتباط اسم أديب مثل (ولى الدين) بأفلام مثل (درب الهوى) ومن قبله (الباطنية) وكلاهما من أجرأ القصص والأفلام واقتحما قضايا مهملة في التاريخ الاجتماعي بل والسياسي المصري، ففي الباطنية كان أول تناول حقيقي لعالم تجارة المخدرات العلني وليس السري، حتى أنه تقف أمام بائعي المخدرات طوابير أطول من طوابير الجمعيات الاستهلاكية، وكذلك درب الهوى الذي اتخذ من أحد أشهر دروب الدعارة الرسمية والشعبية قديما مسرحا رئيسيا لأحداثه، ولكن هناك عيون حولاء تصر على أن مصر بلد الملائكة والقديسين، وأن أبناءها فصيل يرقى على كل أنواع البشر!

لكن هذا عن الباطنية ودرب الهوى، فماذا عن (حمام الملاطيلي) وأظن أنها أول رواية تنشر لإسماعيل ولى الدين، كتبها في أعقاب هزيمة 1967 وصدرت طبعتها الأولى عام 1970 ليتم تحويلها إلى فيلم في عام 1973؟!

إنها نص أدبى بديع ولكن الحكم عليها كان من خلال الفيلم مع أنه من الظلم للمؤلف أن تحكم على إنتاجه الأدبى من خلال العمل السينمائي المأخوذ عنه، فهذا مجال وذاك مجال آخر وهناك اختلافات جوهرية ما بين الرواية والفيلم أهمها أن الفتاة التى تعمل بالدعارة (نعيمة) والتى جسدت شخصيتها الفنانة خارقة الحسن والجمال (شمس البارودي)، فلم تكن شخصية نعيمة الأصلية جميلة ولا تنتمى لعالم الجميلات بل أفلح ولى الدين خلال النص المكتوب أن يقدم لنا صور العاهرة الشعبية شبه الدميمة، وإن كانت شمس أفلحت في جذب الأضواء وشغلت مساحة في الفيلم لم تشغلها نظيرتها المكتوبة في الرواية.

لكن فيما يبدو أن التركيز على المشاهد الجنسية والإغراء بها وإثارة شهوة المشاهد قد فرضها الإنتاج والإخراج فرضا حتى صار الفيلم واحدا من أسوأ أفلام السينما العربية في السمعة، ومع أن الرواية بها جوانب جنسية بل وأحداث شذوذ جنسي تتم في الحمام وفي غير الحمام، لكن مع ذلك فولى الدين لا يشعرك بأنه يريد الإثارة أبدا، بل كتبها بإحساس مجرد عال جدا حتى تكاد تشعر بانفعاله في قبضة أنامله على القلم وهو يغوص به في أعماق المجتمع المصري من خلال شخصيات روايته.

ثمة شيىء آخر أشار إليه الأديب العظيم (يحيى حقي) الذي كتب مقدمة تحليلية كاشفة للرواية، وهي افتتان المؤلف بالمكان ومعالمه كابن حى الجمالية العريق – هل تذكرت نجيب محفوظ؟! – فقد أسهب ولى الدين في وصف المبانى والأماكن والتى صارت بدورها أبطالا بجانب الشخوص الآدمية تقف حية نابضة في الخلفيات في صمت مهيب يبدو أكثر تعبيرا من الحوار!

ذات مرة عاب أحد الأدباء علي إعجابي الشديد بأدب ولى الدين، وكان هذا بعد انزوائه الغامض بعيدا عن الإعلام فوصفه بأنه (نسخة مشوهة من نجيب محفوظ)، هذا لمجرد أنه يقدم شخصياته من حوارى وأزقة الأحياء القاهرية العتيقة، فكأن الكتابة عن هذه الشخصيات قد تم تسجيل احتكاره قصرا على أديب نوبل وحده، لكن لا أقارن بينه وبين ولى الدين، لأن ولى الدين كان له زواياه الخاصة التى تجعله مختلفا تماما عن محفوظ بل وأكثر جرأة واقتحاما، فإن كان محفوظ يغوص في أعماق الشخصيات مستخدما أنبوبة أكسجين فلسفية، فإن ولى الدين كان يغوص معتمدا على نفسه الطبيعى كروائي، لهذا تبدو نصوص وجمل إسماعيل قصيرة، مع ذلك فهى صادقة حقيقية واقعية تنقل إليك البيئة التى يكتب عنها بكل تفاصيلها الدقيقة التى قد تصدمك لأنه يخرج لآلئ مغموسة في الوحل، لكنا تركنا اللآلئ وركزنا على الوحل.

هناك قصص له تحولت لأفلام وهناك قصص لم تتحول ولكن يبدو الواقع الثقافى لدى غريبا ومتناقضا عندما ينفر من ولى الدين بسبب الجنس بينما لم يكد أديب أو روائي يفلت منه، فمالنا نبرر للآخرين نصوصهم حتى التى لم يتم توظيفها وكتبت لغرض الإثارة أو التجارة أو الشهرة؟!

فمالنا اتخذنا من نجيب محفوظ نموذجا وثنيا نقيس عليه ونقبل ونرفض ونحب ونكره وننجح ونفشل وكأنه لم يكتب الرواية أحد غيره؟!، حتى تغول النقاد بذلك التوثين المحفوظى – لاسيما بعد حصوله على نوبل وتحسس عقد النقص لدينا تجاه العالمية – فمن أجل محفوظ أهمل الكثير من النقاد والقراء والمشاهدين أدباء كبارا من جيله ومن الأجيال التالية له!

ثم إن المقارنة بينهما عمل متسرع غير مبرر ولعلها فرصة أن ننتبه إلى أدباء آخرين تواروا وكادت تنساهم ذاكرة القراء في مصر مع أنهم تركوا أعمالا من الروائع وهم كثيرون جدا وربما كان منهم من لم تسمع عنهن لأن السينما ضلت الطريق إليهم، فلعله كان خيرا لهم فلم تفسدهم كما أفسدت كثير من الأعمال الرائعة لأدباء كبار في مصر وغير مصر!.

ولعل الذين حسدوا إسماعيل ولى الدين في فترة نجوميته بسبب تحويل رواياته لأفلام يشعرون اليوم كيف جنت عليه السينما وأضاعه القراء وأسقطه النقاد من حساباتهم!.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.