رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

الدراما السورية تهرب من الواقع باللجوء للبيئة الشامية

كتب : محمد حبوشة

إلى وقت قريب كان التلفزيون السوري أو الشركات التابعة للدولة ينتجان أعمالا تميل إلى الفانتازيا التاريخية، والدراما الاجتماعية التي تمتعت بالجرأة على غيرها من درامات العالم العربي وكذلك الكوميديا التي قدمت في شكل لوحات (المرايا، يوميات هناء وجميل، بقعة ضوء، صبايا)، وغيرها من أشكال متعددة من الدراما التي تجنح نحو الإثارة والتشويق بحيث شكلت زخما فنيا مغايرا خلال مواسم رمضان المختلفة، وذك قبل أن تتدخل الأحداث السياسية الأكثر تراجيديا في مأساويتها المفرطة، والتي أدت بالضرورة إلى انعاكسها على الواقع الدرامي، ويبدو أن كتاب السيناريو تأثروا بسنوات الغربة والتشريد جراء الحرب، فقرروا الهرب بالحنين إلى الماضي من خلال أعمال البيئة الشامية، كما جاء في خمس مسلسلات من ضمن 9 مسلسلات في موسم رمضان 2021.

أيمن زيدان في الكندوش

ربما الأحداث السياسية هى التي دفعت عجلة الإنتاج الدرامي في سورية حاليا للسير نحو حصر خيارات الشركات في إنتاج مسلسلات البيئة الشامية، لتعليل أسباب تتعلق بأنها أمام نظام متعنت لا يريد فسح مجال لنصوص اجتماعية معاصرة، وصعوبة في تسويق الأعمال المحلية التي تعالج مشكلات الواقع السوري المعقد، يضاف إلى ذلك هجرة أو توقف أبرز كتاب الدراما المعاصرة عن تقديم نصوص جديدة، إذاً، هى مرحلة انكفاء للخلف ولدت حالة من التماهي مع البيئة الشامية، ليكون موسم رمضان 2021 هو الأغزر من ناحية إنتاج هذه الأعمال، والأكثر خطراً على هوية الدراما السورية التي عرفت عربيا بدراما الطبقة المتوسطة، والطرح الرشيق بين مشاكل الحياة اليومية والمفارقات الطبقية ذات الحس الكوميدي.

والمفارقة اللافته للانتباه هذا العام أنّ الدراما الشامية استطاعت استقطاب شريحة كبيرة من نجوم الصف الأول وكأنها حالة تنافسية ضمن قطاع درامي وحيد، فبدل أن تكون المنافسة ضمن الدراما بقالبها العام، تحولت إلى منافسة ضمن الحارة الشامية، وهو ما يدعنا نسأل هذا السؤال: لماذا لم تقدم الدراما المصرية مثلا موسما كاملا من الدراما الصعيدية، وحافظت على تنوع متوازن بين الدراما الاجتماعية والشعبية والكوميدية؟

سولاف فواخرجي تفقد بريقها في الكندوش

ظني أن ما وصلت إليه الدراما السورية اليوم هو حالة تنافس عمياء بين الشركات المحلية تقودها جهات إنتاج إقليمية منها المعروف ومنها المجهول، وأضيف إليها على قائمة القنوات التلفزيونية المنصات البديلة، لتتحول الدراما في قالبها الإنتاجي إلى ثلاث طبقات بين أعمال مدفوعة التكلفة خليجيا يتحول البذخ فيها إلى بناء حارات كاملة، واستقطاب أكبر عدد ممكن من النجوم والدخول في متاهة الأجزاء، والطبقة الثانية هى الأعمال المنجزة في الداخل أو الخارج من قبل شركات متوسطة تحاول صناعة حكاية شامية مقبولة إنتاجياً دون أسماء لامعة بشدة ولكن مع قابلية للتسويق بسعر أقل من المسلسلات الضخمة ما يعني ضمان الحضور على الشاشات، وتبقى الطبقة الثالثة لصالح المسلسلات المحلية منخفضة الكلفة والتي لا تخرج من نطاق التجريب والمتاجرة في الصورة النمطية للحارة الشامية بالاعتماد على كتاب ومخرجين لا يمتلكون النضج الكافي للكتابة عن مراحل تاريخية حساسة، بل يزيدون في المساهمة بتشويه صورة دمشق التاريخية لدى المشاهدين.

وعلى هذا، شاهدنا  عباس النوري وسلافة معمار في بطولة مسلسل (حارة القبة) المقرر أن يمتد لخمسة أجزاء متتالية، وتستمر حكاية  (سوق الحرير) موسماً ثانياً بحضور كل من بسام كوسا وسلوم حداد كاريس بشار، وفي الجعبة أيمن زيدان الذي أطل في مسلسل  (الكندوش) مع الشقيقتين صباح وسامية الجزائري بإشراف الفنان أيمن رضا، في حين تستمر المتاجرة بإنتاج جزء حادي عشر من (باب الحارة)، ومعروف أن المسلسلات السورية على هذه التراتبية المحصنة الدقيقة التي كانت تصنف وفق مزاج من وضع التواريخ والدروس والأحداث والنماذج، صارت لون واحدا هو البيئة الشامية لاغيرها، وعلى الدراما أن تستوعب (الحالة التاريخية السورية)، عليها أن تفي بواجبها تجاه الفكر الشمولي والنضال القومي، كما تناولت تلك المهازل الصورية تاريخ النضال ضد العثمانيين ـ توقف عندهم النضال، وبسببهم تأخرت نهضة الأمة ـ ثم ضد الفرنسيين (اللذين شوهوا تاريخنا ونهبوا ثرواتنا، لكننا هزمناهم شر هزيمة).

ثم ضد الفراغ في الجغرافيا وفي الزمان بعد أن حولتهما قدرات أب الفانتازيا التاريخية السورية (المخرج نجدت أنزور مثالاً والكاتب هاني السعدي مع الكاتب قمر الزمان علوش مثالين اثنين) إلى صور مشعشعة ماصة كالاسفنج، وضخامات مشهدية مرسلة على اعتباط وارتجال سفَّهَا العينَ التي – مع ثراء مدوخ كهذا ـ لا تحتاج ذاكرة ولا فكراً، جدلاً ولا رفضاً.

عباس النوري لم يظهر تألقه في حارة القبة

على الدراما السورية أن تفيق من كبوتها الحالية وتستعيد وجهها المشرق كما كانت قبل عشر سنوات  بعد أن غدت دراما البيئة الشامية المملة في أحداثها الباهتة تطرد الدراما الاجتماعية العصرية حتى صارت من الذكرى، فالحمولة نفدت والخيال استهلك حد اليباس، وعلى الذكاء المسلي التجاري ـ عوناً وصديقاً للذكاء السياسي ـ أن يعثر على حمل جديد ووهم تال، فإذا بدمشق العريقة المحافظة المنزهة تكشف عن معين لا ينضب وحارات لا تنتهي حكايا نسوانها وبياعتها وزعمائها (العكيدون المحافظون الجدد)، على هذا الحال كان من (باب الحارة)، مثلاً، ثلاثة أجزاء، مروراً بـ (الحصرم الشامي) في جزءين يليهما ما قد يليهما، وعطفاً على (بيت جدي)، (أهل الراية) و(لك يا شام)، بعد سنوات من إنجاز هاني الروماني لـ(حمام القيشاني) الذي أرّخ ـ كما من قبل أرخت الكتب على هدي الفكر السائد ـ لتحولات السلطة ومطبات الأحزاب وانقلابات العسكر في دمشق وجوارها القريب المحصن دون أن يمس السلطة ولا الأحزاب ولا العسكر في شيء)..إلخ.

أليس هنالك كاتب يفكر في حال فتاة قتلت بسبب زواجها من طائفة أخرى، أو لم يفكر أحد أو يتذكر أن أخرى انتحرت، لأن صورها بثت بالبلوتوث، لا أحد يجادل في خصوص القانون (المادة 192 من قانون العقوبات السوري) الذي يبيح أو يتهاون حد الإباحة على القتل بدافع الشرف؛ فالحارة لا تعرف البلوتوث قط، وليس لها من مشاكل مع طوائفها المجاورة، ودفاعها عن الشرف يماثل أحقية دفاعها عن الأرض، الكل يشي بالكل، الكل يشبه الكل، بل هي المفردة الواحدة بصيغ جمعها الكثيرة، إذ لا مفرد هنا قط سوى في تشميله وإسكاته وتذويبه بالجمعي المنصور بيد الشعب؛ ثمة الروح التي لا تعرف المرض، روح الحارة الوارفة المرفرفة، ثمة الروح الوطنية الجبارة المقدامة، ولا أحد يمكنه إنكار الروح، فهي روح ومن يمكنه مجادلة روح بهذه الشفافية وهذا الجلاء؟!.

على هذا المستوى من أعمال البيئة الشامية لا يمكن مقارنة باب الحارة بـ (ليالي الحلمية) ولا حمام القيشاني بـ (زيزينيا) الإسكندرية؛ ألفهما أسامة عكاشة، الحارة والحمام حكايات عن دمشق البعيدة والقريبة محصورة بضيق مكاني واجتماعي وسياسي، إنها من مادة الحكي الذي لا يعرف ضبطاً ولا وقفاً عدا النقل والخبر والتكرار بين الأخبار والحوادث منتقاة معقمة ومتشابهة، بين المنازل والحوانيت والمقاهي في دوائر لا تعرف التجاوز ولا الاختلاف، لا غريب ولا زائر ولا ضيف، وإذا كان من اتصال فهو (مع الثوار في فلسطين)!، والصورة على ذي الحال تتحول إلى صوت خطابة مرئية، إنها تخدم الصوت ناقلاً بلا تبئير ولا حرف. وأنت ترى كأنك تسمع، وتسمع من لم يختبر من الحكاية سوى صوتها الواحد اليتيم.

سلافة معمار ليست بذات المستوى الأدائي في أعمال البيئة الشامية السابقة

عين لا تتذكر ولا تحن ولا تخلع قدر ما تسجل وتتغافى وتتناسى، وصوت لا يفكر ولا يثور ولا يجرح قدر ما يستعيد أو يتغنى أو يثرثر؛ ليته كان يثرثر وحسب، أما ليالي الحلمية ـ بطولة يحيى الفخراني وصلاح السعدني وصفية العمري وهشام سليم ـ فشكلت سجلاً موثقاً وزاخراً بأحوال مصر متنوعة ومختلطة بين الساسة والمجتمع، بين الريف والمدينة، بين الطمع والطموح، بين العائلة وتحولات الزمن القدرية المرة، كانت المقابل الصوري والتمثيلي والفني الأكثر قرباً ووفاء وتناولاً لعقود طويلة من التغيرات والتبدلات في بيئة خصبة ولودة ومتشابكة، وهى تذكر بقرابات محفوظ الحميمة والذكية من الحارة والمقهى وعالم الموظفين والسياسيين.

بينما ينطلق باب الحارة، مثالاً، من الضيق ويمكث فيه، ضيق المكان وضيق الثقافة معا، ثمة لدى مجمل الدراما السورية التلفزيونية هذا التأبيد للحظة أو حدث أو حكاية تظل تنسخ وتتوارث وجوهها الألف بلا توقف ولا ارتداد ولا تبديل، لذلك ربما هو وزر وزور الجنوح الصوتي المنفر والحماسة العليلة المسهبة تعويضاً عن جمود الصورة ورتقاً لخيال بلا شساعة لم تجد خصوبة حوار وسرد يمكن للصورة معها أن تتزود وتتمعق وتهاجر وتحفر بلا إعاقة ولا تكلف ولا اجترار، كما حدث في مسلسلات البيئة السامية الخمس التي تمتعت بالفكر الجامد والمحاصر بتفضيل تعطيل الأعمال على خلقها، مراقبتها على رعايتها، وترويجها المرخص على تمردها، ونجاحها الجماهيري على ممانعتها الفنية إن لم نقل نفورها عن الذوق العام.

باب الحارة .. تكرار يخلو من إبهار مواسمه السابقة
حتى النجوم الكبار سقطوا في براثن الملل

ربما لأن كاتباً مثل أسامة أنور عكاشة جاء من الأدب والرواية ولم يأت من الوظيفة التنفعية ولا المؤسسة الحكومية، مع عكاشة يمكنك تذكر حوار ولو صغير ونافل عن (لوتريامون أو ريلكه أو كافافيس)، فيما من تكن الحارة حدوده والباب رجاءه وليله معا لا يعرف أن بالقرب من سفح قاسيون قبر الشيخ محيي الدين ابن عربي، أو أن شخصية مثل (بازوليني) قدّم دمشق في بداية السبعينيات، وعرض فيلماً بسينما الكندي بعد أن صوره في قلعة سمعان، حيث خاطب سمعان العامودي الناسك المعلق بين السماء والأرض (هل من مكان لترقد عظامي جنب عظامك؟).

خلاصة القول أن الحالة الدرامية  السورية يبدو أن الوهم وحده سيدها وممدوحها المحلي، فالحال أنهم أبناء الحارة ولا يبدو أنهم غادروها قط، ولن يرفعوا أعينهم فوق بابها المغلق، لكن بعون الشاعر: (افتح الباب، ثمة هواء على الأقل)، لكن ربما يتطلب ذلك نسيان الصورة، فالتصوير انتهى، ربما علينا العودة إلى الأذن، إلى محمد عبد الكريم مثلاً أو سيد درويش، في مصر التي حظيت الدراما فيها بتنوع شديد على مستوى الهوية الوطنية أو الاجتماعية والكوميدية والإثارة والتشويق وكل هذا خاطب الجهور العربي في رمضان 2021 بلغة جديدة وجاذبة على أكثر من مستوى على عكس أفلول نجم الدراما السورية هذا الموسم الذي جاء في شكل فقفزة للوراء عبر البيئة الشامية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.