رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

من فات قديمه تاه

بقلم: محمود حسونة

(من فات قديمه تاه)، ليست مجرد كلمات عبثية بل مَثل أفرزته التجارب الشعبية وتناقلته الأجيال، أملاً في أن يكون للمعاصرين معيناً، يساعدهم على اختيار الطريق الذي يصلون في نهايته إلى بر الأمان، فنحن لسنا أبناء زماننا فقط ولكننا أبناء زمن آبائنا وأجدادنا وأجداد أجدادنا، ولو تجاهلنا ماضينا لتعثرت خطوات حاضرنا وتبعثرت خطط مستقبلنا.

الماضي جزء أصيل في كل منا، إليه نعود ومنه نستدعي التجارب عندما نريد أخذ قرار مصيري لأجل المستقبل، نتعلم ممن سبقونا ونستلهم مواقفهم ونطالع أقوالهم لعلها تهدينا إلى القرار السليم.

ليس قديمنا هو فقط الذي يشكل شخصيتنا، ولكن قديم الآخرين أيضاً وكل قديم إنساني نطالعه عبر الكتب أو من خلال شاشة تليفزيونية أو فيلم سينمائي، أو نتعرف عليه من خلال أي وسيط معرفي وثقافي يسهم بشكل أو بآخر في تشكيل وجداننا ويساعدنا على رسم ملامح مستقبلنا، ويلهمنا صائب القرار وحكيم الكلام والفعل؛ والمهم هو كيفية استقبالنا للقديم وكيفية استخلاص العبر والمعلومة المفيدة منه، حتى لو كان هذا القديم إمتاعي، فالمهم أن نجيد الاستمتاع بما فيه. 

كلنا يحن إلى القديم، وغالباً ما يكون لهذا الحنين مبرره، ونادراً ما يكون غير مبرر، ولو تأملنا سينما الأمس سنجد ما يربطنا بها، هو نوع من حب وحنين ندرك أسبابه كلما شاهدنا أياً من الروائع التي تركها لنا الأسبقون والتي ستظل علامات مضيئة في تاريخ الفن السابع، ولا نفهم تلك الأسباب بعد مشاهدة بعض الأفلام “الساذجة” التي تركوها لنا، والتي تطغى عليها فطرة التمثيل وفطرة الإبداع؛ نعم هي فطرة واضحة قد تضعف العمل الفني، لكنها بلا شك أفضل بكثير من الفذلكة في الابداع والتعالي الذي يحسه المشاهد لدى أي فنان أصابه غرور الشهرة في زماننا هذا، وجرّده من فطرته وصدقه ليطل على الناس كما الكذاب الأشر.

ارتباطنا بالماضي ليس حنين وهمي بل لأنه بالفعل “فيه حاجات حلوة”، والا ما كانت أم كلثوم التي توفيت قبل ٤٦ عاماً مازالت الأكثر نجومية وشهرة ولا زالت أغنياتها الأكثر جذباً للأذان وإمتاعاً للوجدان وترديدا على الألسن، وما زالت مسلسلات مثل “ليالي الحلمية” و”رأفت الهجان” و”الأيام” و”الراية البيضاء” و”الشهد والدموع” و”أبنائي الأعزاء شكرا” و”المال والبنون” تلقى جماهيرية عند عرضها على إحدى الشاشات وتجذب مشاهدين جدد عبر يوتيوب، والأمر نفسه ينطبق على الكثير من أفلامنا القديمة مثل “الزوجة الثانية” و”دعاء الكروان” و”الأرض” و”المومياء” و”بداية ونهاية” و”البوسطجي” و”اللص والكلاب” و”شيء من الخوف” و”البريء”.

هذه الأفلام قد تتجاوز مستقبلاً العرض التليفزيوني أو على شاشات الموبايل واللاب توب والكمبيوتر، وقد نعود لنشاهدها على شاشات السينما مرة أخرى، وقد تنافس الأفلام المنتجة حديثاً في بورصة الايرادات.. هذا ليس مجرد كلام ولكنه قد يكون واقعاً في المستقبل القريب، والخطوة الأولى في هذا الصدد اتخذتها شركة الأفلام الفرنسية (M.K2) بالتعاون مع شركة التوزيع العالمية (بيس أوف ماجيك)، حيث ستتعاونان سوياً لإحياء الذكرى المئوية لفيلم “الطفل” لشارلي شابلن بترميمه بتقنيات جديدة تحسن صورته، قبل عرضه سينمائياً في ٥٠ دولة حول العالم.

خطوة مماثلة اتخذتها نتفليكس أشهر منصة اليكترونية للترفيه والتي قررت تمويل  عملية ترميم جديدة لفيلم “نابليون” الصامت وذلك بالاتفاق مع “السينماتيك” الفرنسي، والنسخة التي سيتم ترميمها هي النسخة الأشمل والأطول منذ عرض الشريط للمرة الأولى عام ١٩٢٧، وستكون جاهزة ومتاحة للجمهور بعد شهرين في ذكرى مرور 200 عام على رحيل نابليوَّن بونابرت.  

عالمنا يقفز نحو المستقبل بما توصل إليه العقل البشري من تكنولوجيا، ولكن الجميل أن هذه التكنولوجيا لن تأخذ إنسان اليوم والغد إلى المستقبل وتنسيه الماضي، ولكنها ستدفعه للمستقبل وهو محمل بالرصيد الإنساني الذي تركته له أجيال وأجيال منذ خلق الله تعالى آدم وحتى اليوم.

التكنولوجيا هي التي أعادت أيضاً أم كلثوم لتغني على خشبة المسرح وتم تنظيم حفلات لها في مصر والإمارات والسعودية شهدت إقبالاً كبيراً وتفاعل معها الحضور وكأنها حية، تتحرك على المسرح وتتسلطن ومنديلها في يدها وهي تقول للزمان ارجع يا زمان، وكل ذلك عبر تقنية الهولوجرام التي توحي للجالسين في الصالات أن الواقفة أمامهم هي أم كلثوم بشحمها ولحمها، تغني وتطربهم.

ليست هذه أولى تجارب إحياء القديم ليظل موجوداً بيننا ومتوافقاً مع أذواق الأجيال المتعاقبة، فقد سبق أن تم تلوين الكثير من الأفلام التي أنتجت في زمن الأبيض والأسود سواء في السينما العالمية أو المصرية، وهي التجربة التي أثارت جدلاً بعد أن فقدت بعض الأفلام بريقها بعد تلوينها، ولكنه الجدل الصحي واللازم والذي يعكس حيوية هذه الأعمال وجاذبيتها لقطاعات عريضة من الجمهور وإثارتها اختلافات بينهم تعكس الاختلاف الطبيعي بين الناس في الأذواق.

قديمنا سيظل له دور مهم في تشكيل وجدان مجتمعاتنا، والمهم أن نظل نمرر القديم أمام صغارنا لتعريفهم عليه، وبعدها سيبحثون عنه مثلما نبحث نحن عن القديم الأدبي والفني ونتمنى عودة القديم السلوكي.

ومثلما شغلتنا وشغلت أجيال وأجيال قبلنا أمهات الكتب ستشغل الأجيال القادمة أيضاً أمهات الكتب والأفلام والمسلسلات، وستظل الحياة “جيل يسلم جيل” الرصيد الابداعي الانساني قبل أن يورثه عقاراً أو مالاً.

[email protected]

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.