ثورة الدراما المنتظرة
بقلم: محمود حسونة
الثورات لا تقوم على أنظمة الحكم فقط عندما تشيخ وتصاب بالعجز السياسي الذي يفرز عجزاً في مختلف مناحي الحياة، ولكنها تندلع أيضاً في قطاعات بعيدة عن السياسة مثل الطب والهندسة والتعليم والاقتصاد وحتى الفن.. وأياً كان المجال، فالثورة لا تولد إلا حين يأتي أوان التغيير والانقلاب على السيء المشوه العاجز النمطي.
الدراما، من أكثر المجالات التي تستلزم ثورة بعد أن تشوهت ملامحها وتعددت أمراضها ابتداء من الترهل والمط والتطويل والتكرار والدوران في حلقة مفرغة. وعندما فرضت التطورات التقنية المتسارعة منصات العرض الالكترونية التي تتيح للمشتركين فيها حق المشاهدة وقتما يشاؤون وبالكيفية التي يريدون ومن دون أن تسطو على وقتهم الإعلانات، انفض قطاع عريض من الناس من حول القنوات التليفزيونية التقليدية، وقادت التطورات المتلاحقة ما يشبه الثورة في العرض التليفزيوني بعد أن انسحب البساط من تحت أقدام القنوات والفضائيات التي أصبح الكثير منها ينعق وحيداً في الفضاء، وتحول العديد من مذيعيها إلى مخاطبين لأنفسهم، وانحدرت نسب المشاهدة التليفزيونية بشكل صرف أيضاً المعلنين عن المحطات متوجهين إلى مواقع التواصل الاجتماعي.
الثورة الجديدة فرضت واقعاً جديداً للمشاهدة، وأصبحت المنصات هي هدف صناع الدراما وهي المستهدفة من عشاق الدراما، وبعد أن كانت بعض القنوات تخدع المشاهدين بادعاء امتلاك حقوق العرض الحصرية أصبحت المنصات هي السباقة في العرض وصاحبة الحق الحصري، بل والمنتجة للعديد من الأعمال مثلما تفعل نتفليكس، وقامت المنصات بتحرير الانتاج الدرامي من قالب الثلاثين حلقة الذي ساد خلال السنوات الماضية، ولَم تحدد إطاراً عددياً للحلقات وتركت ذلك لما تفرضه القصة والأحداث وهو ما ساهم في تخلص بعض الأعمال من داء المط والتطويل.
المنصات نجحت في تحرير الدراما جزئياً على مستوى الشكل وعدد الحلقات، ولكن على مستوى المضمون غرقت أكثر وأكثر في مستنقع من التفاهة التي أصبحت تجيز عرض الغث بلا قصة ولا مضمون يستحق المشاهدة، ويتناقض مع القيم الانسانية والمبادئ التي تعلمناها من الأسبقين، بل ويمكن أن يهدد سلامة مجتمعاتنا.
خلال العام الأخير شاهدنا أعمالاً بلا مضمون ولا قيمة، مشوشة الفكر، لا تعلم ما الذي يريد أن يقوله صناعها وكأن الهدف الوحيد منها التسلية وقتل الوقت، ومنها مسلسل “نمرة اتنين” الذي عرضته منصة شاهد في آي بي، وكان عبارة عن ٨ حلقات منفصلة متصلة، عن الحب الثاني في حياة أبطاله، مصوراً إياه بالحب الخالي من أمراض الحب الأول، الحب الذي يحرر صاحبه أو صاحبته من “قيود وملل” الزواج.
نموذج آخر قدمته مؤخراً أيضاً شاهد في آي بي تحت عنوان “أنا” بطولة تيم حسن ورزان جمال ورولا بقسماتي، وتدور أحداثه في ١٠ حلقات عن الخيانة الزوجية، وفيه توحي المؤلفة أن الخيانة موجودة في كل بيت وأنها أمر واقع في حياتنا، وكأنها تدعو لتقبلها!
حكاية لا تليق بمجتمعاتنا ولا تتناسب مع عاداتنا وتقاليدنا، وتتجاوز على قيمنا الدينية والاجتماعية وتتحدى إنسانيتنا ليعيش من يرتضي بها حياة التخبط والضياع ليس له وحده ولكن لشريكه في الحياة، وهو ما لن يسلم منه الأولاد الذين سيخرجون للحياة مشوهين نفسياً ومعقدين اجتماعياً.
كل الشواهد تؤكد أن الخيانة موجودة، ولكن أيضاً كل الشواهد تؤكد أن من يرتكبها أو يرتضيها خارج عن العرف الانساني وعن منظومة القيم السماوية والأرضية، وأيضاً معظمنا يدرك أن إنتاج مسلسل عنها هو الانحدار والانهيار للدراما والفن وهو السقوط في مستنقع لا خروج منه.
المسلسل الذي أخرجه سامر البرقاوي يقدم أشكالاً مختلفة للخيانة إبتداءً من والدة أسيل التي خانت زوجها مع أحد موظفي شركته، وتركت زوجها وابنتها طفلة لأجله. أما البطل كرم والذي يجسده تيم حسن في سقطة تلوث سجله الفني، وهو مهندس معماري يعمل في شركة والد زوجته أسيل، فإن الخيانة في طبعه حيث تبدأ الحلقة الأولى وهو يخون زوجته في يوم ميلاده ويذهب متأخراً للاحتفال بعيد ميلاده مع زوجته وأصدقائه، وتتكرر الخيانة مع مدرسة الرقص لابنته والتي تهرب منه ولكنه يلاحقها باسم الحب حتى يتحقق له ما يريد ويقع في غرامها وعندما تعلم زوجته يعترف لها ويؤكد أنه لا يمكنه الاستغناء عن أي منهما!
وجه ثالث للخيانة هي صديقته وزوجة صديقه نايا وتجسدها دياموند بو عبود والتي تخون زوجها بدعوى أن عمله يأخذ منه معظم وقته، وتسعى لتبرير الخيانة.. بالحب.
عبث وتجاوز وتجميل للقبح وسقوط للفن ولصناعه وكله باسم الدفاع عن الحب، والغريب أن المسلسل بدأ وانتهى وهو يتبنى تبرير الخيانة، حتى ولو كان الثمن انهدام الأسرة وضياع الأولاد.
ليس تجميل القبيح هو المأخذ الوحيد على المسلسل ولكن ضياع كاتبته ومخرجه فنياً وتقديمهم نهاية ساذجة له، حيث يذهب الخائنان (كرم ونايا) لحبيب الثانية رواد يطالبانه بالابتعاد عنها بعد أن اكتشفت في اللحظات الأخيرة أن زوجها يحبها، ولكنه يرفض “باسم الحب” أيضاً، وتقرر الكاتبة أن يخرج كرم تاركاً نايا ورواد، فإذا بالحوار يحتد بينهما وينتهي بقتل العشيق؛ ليت السذاجة تقف عند هذا الحد، بل تتصاعد لنجد نايا تستنجد بصديقها كرم لينقذها، وفجأة يصبح هذا البطل الذي عرفناه طوال الوقت خائناً لزوجته وأسرته، وفياً لصديقته إلى حد التضحية بالذات وتسليم نفسه مدعياً أنه القاتل! وتصل هذه الدراما إلى قمة البلاهة في مشهد الختام حيث كلا من الزوجة والعشيقة تتواجهان أثناء زيارة البطل في الحبس!.
العنوان غريب حتى ولو كانت شخصيات المسلسل تعاني فقدان الذات وتضخم الأنا؛ والشيء الوحيد الذي نجح صناع المسلسل فيه هو دفع المشاهد للتعاطف مع الخائن والوفي، ولا فرق بين بريء ومذنب وكلاهما معذور ومغلوب على أمره، وهذا هو هدف المسلسل الخبيث الذي يشل تفكير المشاهد ويدفعه لرؤية المتناقضات بصورة ضبابية لا تترك ملامح محددة لأي منها.
لا أدري هل هذه هي الثورة المنتظرة للدراما، وهل هذا هو التغيير الذي يريده صناعها وينتظره جمهورها، أم أن الثورة تحتاج إلى ثورة تصحيح، والتغيير الحقيقي لن يتحقق سوى بانقلاب يغير كل معادلات اللعبة الدرامية وينتشلها بعد أن خرجت من مستنقع لتسقط في مستنقع أكبر؟.
رحم الله جمهور الدراما من شطحات صناعها ومن غياب وعي فئة منهم ومن شللية بعض القائمين عليها.