“ماوراء الطبيعة”.. جدل عالي الصوت
بقلم: محمود حسونة
بعض الأعمال الدرامية تمر على الشاشات، من دون أن تمر على عقول ومشاعر مشاهدي هذه الشاشات، مرور يتابعه البعض ولكنهم لا يحسون به ولا يتجادلون حوله ولا يترك فيهم تأثيراً يذكر، وهى أعمال لا ننكر أن البعض يتابع حلقاتها حتى النهاية، على سبيل تضييع الوقت وليس على سبيل الاستمتاع وتشغيل العقل وتغذية الروح وشحن الوجدان، وبمجرد انتهاء عرضها تسقط من الذاكرة وكأنها لم تكن، وللعلم فهي ليست قليلة بل كثيرة مثل الكثير من حولنا العديم المنفعة، وليس أمامنا سوى التسليم بوجوده من دون إشغال العقل به.
وعلى الجانب الآخر، هناك أعمال درامية تحدث صخباً وتثير جدلاً قبل عرضها، وبمجرد الإعلان عنها تجد الناس يتحدثون عنها، يتفقون ويختلفون، وأحياناً يكون جدلهم عال الصوت، ومثال ذلك مسلسل “ما وراء الطبيعة” الذي عرض مؤخراً على منصة نتفليكس العالمية.
حالة الجدل والصخب التي سبقت وصاحبت عرض المسلسل ستستمر حتى يتابع الناس أجزاءه التالية التي أعلن عنها القائمون عليه، وهو جدل من حقك أن ترفضه ولا تشارك فيه، إنما لا يمكنك سوى التسليم بأن وراءه أسباب عدة، يأتي على رأسها أنه تحقيق لحلم الكاتب والأديب الراحل أحمد خالد توفيق والملايين من عشاق أدبه، والذي كان يتمنى دائماً أن يرى أعماله المكتوبة وقد دبت فيها الروح وتحولت إلى أعمال تليفزيونية أو سينمائية، وأن يرى شخصياته تتحرك أمامه على الشاشات، وهو الحلم الذي شاركه فيه عشاق كتاباته، والذين خلقوا حالة الجدل مبكراً بمجرد الإعلان عن المسلسل، معبرين عن سعادتهم بتحقيق حلم العرّاب الذي شكلت كتاباته وجدانهم، ومعبرين أيضاً عن حزنهم لأن ذلك جاء متأخراً بعد وفاة الكاتب، وحتى لو جاء متأخراً فهو أفضل من أن لا يأتي أبداً.
السبب الثاني، هو أن “ما وراء الطبيعة” أول مسلسل مصري يتم إنتاجه لحساب منصة (نتفليكس) الأمريكية العالمية، والتي تضم مشتركين من ١٩٥ دولة حول العالم، وتعرض أعمالها بلغات متعددة تضمن حق أي مشترك فيها مشاهدة هذه الأعمال باللغة التي يجيدها؛ وبعيداً عن ما يردده البعض عن أنها تضمن العالمية لأعمالها، فيكفي أنها توفرها لهذا الكم من الدول وبهذا القدر من اللغات، وبالتالي فإن “ما وراء الطبيعة” أصبح متاحاً لمن يرغب مشاهدته أو التعرف على الدراما المصرية حول العالم، لعله يكون بداية انطلاقة جديدة للدراما المصرية والعربية، الثمين منها فقط أما الغث فمن الطبيعي ألا يكون له مكان في بحر الدراما العالمية المتلاطم الأمواج، ولو تسرب بالخطأ فلن يلقى سوى الغرق.
السبب الثالث، هو أن المسلسل جاء مختلفاً عن المعهود من الدراما المصرية، وخرج بها إلى أفق جديد، بعيداً عما سئمه الناس من دراما صراع الأسرة وتناطح الإخوة وقصص الغرام المتكررة وقضايا الثأر وكل ما غرقت فيه مسلسلاتنا منذ وعينا على الدنيا، وحتى جاءت (نتفليكس) لتكشف أن لدينا من يستطيعون تقديم الفانتازيا في الدراما وأيضاً الرعب من خلال أدوات ومخلوقات ليست بعيدة عن تراثنا، وتعيد إلى أذهاننا حكايات جدات زمان عن كائنات كانوا يستدعونها من خيالهم لإخافتنا ونحن أطفال.
السبب الرابع أن “ما وراء الطبيعة” لم يخرج عن المألوف في الدراما المصرية في اختيار موضوعه وتقنيات إبداعه فقط، ولكن أيضاً في أبطاله الذين اختارهم ليسوا نجوماً، وأعاد اكتشاف مواهب حقيقية لم تأخذ حقها في ظل نظام تسيطر عليه الشللية والمصالح وأشياء أخرى، ليمنح دور البطولة لفنان عبقري هو أحمد أمين، ضاقت أمامه شاشات المحطات التليفزيونية، فاختار أن يقدم نفسه عبر اليوتيوب لنجد أنفسنا أمام كوميديان كبير، لا يكتفي فقط بأن يضحك متابعيه، بل يضحكهم على أنفسهم بسبر أغوارهم وفضح عيوبهم وكشف اعوجاجهم، ومن خلال “٣٠ ثانية” أضحكنا كثيراً، إلى أن أطل علينا في هذا المسلسل وقد ارتدى عباءة مختلفة تماماً، لنجد أنفسنا أمام رجل علم عاش في متاهة الأرواح الخفية والخرافات، وأخذ مشاهديه معه إلى هذه المتاهة ليدوروا معه في حلقة مفرغة ليجد والمشاهدين المخرج بعد إعمال العقل والتأكيد على أن متاهات حياتنا هي في عقولنا وأنماط تفكيرنا التي تنحرف كثيراً عن أطر العلم والديانات السماوية، ومن حق المخرج الموهوب عمرو سلامة والمنتج الفنان محمد حفظي أن نرفع لهما القبعة على الاختيار الموفق لأحمد أمين بطلاً للمسلسل بصرف النظر عن الأخطاء البسيطة التي وقع فيها هو وطاقم التمثيل وطاقم المسلسل، ولكنها لا تنتقص من جودة العمل.
وأخيراً فإن صراع العلم والخرافة صراع قديم منذ الأبد، وسيظل إلى الأزل، ومهما تقدم الانسان علمياً وأحرز المبهر من الانجازات، واكتشف الغريب والمثير من الحقائق، وادعى رفضه للموروث بما يحمله من خرافات، إلا أن هذا الموروث وتلك الخرافات ستظل تلاحقه، وتشكل جانباً من تفكيره، وتكون شريكاً في صنع قراراته، والدكتور رفعت اسماعيل أستاذ الدم في كلية الطب ليس سوى نموذج درامي يحاكي العديد من النماذج الحقيقية في الحياة ورغم قوانينه الحياتية والعلمية فقد تاه في عالم الخرافة، ولولا أنه رجل علم ما وجد له ولمشاهديه وقراءه مخرجاً.