رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

فتوح نشاطي .. رائد الإخراج المسرحي الذي أبهر طه حسين (1)

* في طفولته تعرض للموت أكثر من مرة

* سلامة حجازي يفتح عينيه على عالم المسرح

* صوت وتمثيل جورج أبيض جعله يذوب عشقا في خشبة المسرح

* سرق ملابس والدته حتى يستخدمها فى أول أعماله المسرحية

* نفاه شقيقه إلى المنصورة حتى يبعده عن المسرح فوقع في حب القراءة

* عاد إلى القاهرة فاستقبلته ثورة 1919 على أعناق المتظاهرين

* فكر في الإنتحار فأنقذه صديقه بالعمل في بنك (الكريدي ليونيه)

الرائد المسرحي فتوح نشاطي في شبابه

كتب : أحمد السماحي

في منتصف ديسمبر عام 1936 علم الفنان الشاب (فتوح نشاطي) من الجرائد أن لجنة ترقية التمثيل العربي قد قررت إيفاد بعثة إلى الخارج مكونة من أربعة أعضاء للتخصص فى التمثيل والديكور والإخراج المسرحي، وبمجرد اطلاعه على هذا القرار سارع بإرسال خطاب إلى مديره شاعر القطرين (خليل مطران) مدير الفرقة القومية للمسرح يطلب ترشيحه لهذه البعثة، ولم يمض يومان حتى استدعاه خليل مطران وطلب منه تزويده ببعض المعلومات الإضافية عن حياته كممثل وأديب ومترجم ففعل، وفعل مطران نفس الشيئ مع الفنان سراج منير الذي تقدم هو الآخر للسفر إلى هذه البعثة، ومر شهر وفتوح يعيش فى أحلام ذهبية، حتى فوجئ بأن اللجنة العليا قد حددت أسماء المسافرين فى البعثة، وليس اسمه ولا اسم زميله سراج منير من ضمنهم.

 فثارت ثائرته هو وسراج منير، وتوجها فورا إلى مكتب مدير الفرقة القومية (خليل بك مطران) فقال لهما أن هذا القرار لا دخل له فيه، وأضاف أن هناك عضوا قوي الشكيمة صعب المراس رفض ترشيحهما، وهذا العضور مرهوب الجانب يكاد أن يعادل وحده لجنة بأسرها، هذا العضو هو الدكتور (طه حسين) فرجوه أن يتفضل بتحديد موعد لهما مع عميد الأدب العربي، وهذا ما تم بالفعل .

وفي اليوم المحدد كان (فتوح نشاطي وسراج منير) يجلسان في حضرة  الدكتور طه حسين، وكان موقفهما عصيبا لا يحسدان عليه، وكانت الجهامة تطالعهما بوضوح على وجه العميد الصارم، وتعطلت لغة الكلام بينهما وبينه لحظة، شعروا إنها دهرا، ثم طلب لهما العميد قهوة ، وفجأة بادرهما بهجوم خاطف رجف له قلبهما وقال : (أنتم جايين ليه؟ عاوزين أيه؟.. اللجنة العليا انتهت خلاص وأقرت إيفاد بعثة مكونة من شبان مثقفين، وأنتم جماعة ممثلين لا عندكم شهادات ولا ثقافة ولا دراية باللغات، علشان كده اخترنا أعضاء البعثة من ذوى المؤهلات، واستكمل كلامه ساخرا: ما هي مؤهلاتك مثلا يا سي سراج؟).

الدكتور طه حسين وسخرية قلبت إلى انبهار بفتوح نشاطي

وجم سراج منير ولزم الصمت برهة، ثم ما لبث أن التقط أنفاسه وبدأ يتحدث فى لهجة هادئة رزينة عن دراسته للطب في برلين على مدى ثلاث سنوات، أسهبت فى اتقانه اللغة الألمانية كأحد أبنائها، وأنه ما تقاعس عن مواصلة دراسته للطب إلا لأنه علق أشد التعلق بالتمثيل وانضم إلى شركة (أوفا) للأفلام العالمية، وقام بالتمثيل فيها فى أكثر من فيلم.

فأطرق الدكتور طه حسين برهة من الزمن دون أن يتكلم، ثم فاجأ فتوح بقوله: وأنت يا سي فتوح؟! فأجابه على الفور وقد اهتاج ما سمعه وزال من نفسه كل أثر للاستحياء والرهبة وقال: يؤسفني يا دكتور أن ترمينا بالجهل وكأننا من مشخصاتية زمان الذين كانوا يحترفوا التمثيل للكسب والتعيش، لقد كنت الأول في جميع مراحل دراستي بمدارس الفرير، فما أن أتممت دراستي الابتدائية حتى التحقت بمدرسة الليسية، وبقيت فيها عامين، ثم عبست الدنيا فى وجهي واضطرتني لقمة العيش إلى خوض المعركة الكبرى، معركة الحياة، فالتحقت بعدة وظائف واستقر بي الحال بعض الشيئ.

ولكني ما كانت تسنح لى فرصة مع فرق الهواة والنوادي الفنية بين مصرية وأجنبية إلا ومثلت فيها، ولم أكتف بهذا، بل عملت على تثقيف ذهني في الأدب والمسرح والشعر، فأقبلت على مائدة المعرفة ألتهم ثمارها الشهية دون انقطاع إلى أن غلبتني هوايتي آخر الأمر فاستقلت من مصرف (الكريدي ليونيه) حيث كنت أتقاضي ثمانية عشر جنيها، واحترفت التمثيل بمسرح (رمسيس) مكتفيا بالأحد عشر جنيها التى اتفق معي عليها الأستاذ يوسف وهبي، وما قبلت هذه التضحية إلا حبا للتمثيل وولعا بالفن.

سراج منير صديقه ورفيقه في بعثة فرنسا

وقد ترجمت لمسرح رمسيس طائفة كبيرة من المسرحيات العالمية فازت غالبيتها بنجاح عظيم، وآخر ما ترجمت عن الفرنسية رواية (الجريمة والعقاب) بالاشتراك مع الدكتور الشاعر إبراهيم ناجي، فقاطعه الدكتور طه حسين قائلا: (اذن فأنت تجيد الفرنسية؟) وهنا انبرى فتوح نشاطى بكل ما عنده من لغة أبناء السين، وعدد له المسرحيات التى قام ببطولتها بالعربية والفرنسية، ملخصا له موضوعاتها ومحللا شخوصها ومبينا أهدافها، وقد عاوده على اللنطلاق والإسهاب ما لمسه فى إصغاء عميد الأدب خاصة بعد أن لاحت ابتسامة مشرقة على وجهه الدقيق بددت جهامته السابقة، وأخذ (فتوح نشاطي) يتدفق ويتدفق في الكلام باللغة الفرنسية، وإذا بالعميد يستوقفه قائلا : كفى كفي بهرتني المعلومات دي يا أولادي لا علم لنا بها، وقد خلت ملفاتكم بالفرقة منها، دا أنتم اللي احنا بندور عليكم بالنضارة المعظمة!، لأنكم بتجمعوا بين خبرة أهل المهنة وبين الثقافة، اتفضلوا روحوا مطمئنين، أنتوا اللي حتسافروا بإذن الله وأنا من وراكم أكبر نصير.

وخرجا (فتوح وسراج) من منزل الدكتور طه حسين وقلوبهما ترقص من السعادة، وكأنما قد مستهما عصا سحرية، وبالفعل سافر إلى فرنسا بعد أسبوع من هذه المقابلة كلا من (فتوح نشاطي، سراج منير، صالح الشيتي، محمد متولي) يوم 11 فبراير سنة 1937.

الرائد المسرحي

أحببت فى بداية موضوعي عن الرائد المسرحي الكبير (فتوح نشاطي) في باب (نجوم لكن أدباء) أن أبدأ بحكاية سفره إلى فرنسا ومقابلته للدكتور طه حسين لأنها وكما جاءت في الجزء الأول من كتابه الذي سنستعرضه لكم (خمسون عاما في خدمة المسرح) تعتبر (مستر سين) بلغة أهل السينما أو (منطقة الذروة) بلغة أهل المسرح، فمن خلالها يلقي رائدنا المسرحي بعض الضوء على حياته الفنية والإنسانية التى تحدث عنها بإسهاب في هذا الكتاب الذي ينقسم إلى جزئين.

ولقد هالني كم الأخطاء الموجودة على شبكة الإنترنت الخاصة بمولد وحياة (فتوح نشاطي) الذي ولد ــ وكما ذكر هو ــ يوم 18 مارس عام 1901 وليس شهر أكتوبر كما موجود فى كل المواقع!

حجر رشيد

يبدأ الجزء الأول من الكتاب بمقدمة كتبها عام 1970، أي قبل رحيله بأربع سنوات عكس ما هو موجود أيضا على الإنترنت الذي كتب فيه أنه مات عام 1970 رغم أنه أخرج عام 1970 مسرحية (سر الحاكم بأمر الله) يقول فيها: أطل اليوم على مشارف السبعين بعد حياة حافلة ذقت فيها الصاب مرا ونهلت النعيم بكاسات مترعة، أجاهد الناس والأيام والأحداث دون هوادة، وكأنها حرب سجال كتبت علي، لقد شققت طريقي بين الأشواك والأزهار، فشلت وانتصرت، سعدت وشقيت، اقتحمت المحن دون جزع لا أعتمد على غير الله وحده.

أما اليوم فأشعر بوهن الشيخوخة وعلى الرغم مما لا يزال يعمر به قلبي من آمال كبار فإني أحس تمام الأحسلس بأني أمسيت من سكان الضفة الأخرى، وبت أرقب القدر المحتوم فى شوق زائد عساي استكشف اللغز الأعظم الذي يحير العالمين منذ بدء الخليقة، حامدا ربي على هديته النفيسة وهى الحياة، لقد تعرضت للموت عشرات المرات، ولكن رحمته الكريمة كانت تتداركني فى اللحظة الأخيرة وتأخذ بيدي إلى بر الأمان، سئل عالم الآثار المصرية شامبليون ساعة حضرته الوفاة عما يترك للناس بعد موته فأجاب: (اني تركت لهم حجر رشيد كبطاقة زيارة لمروري بهذا العالم).

هذه الكلمة التى قرأتها منذ ثلاثين عاما ما زالت عالقة بذاكرتي إلى اليوم وقد طمحت أنا الآخر فى دائرتي المسرحية المتواضعة، أن أترك شيئا من بعدي فمثلت وأخرجت وترجمت واقتبست وألفت، وهأنذا أسجل بين دفتي هذا الكتاب حبي المطلق للمسرح وجهاد العمر فى سبيل رفعته بمصرنا العزيزة.

الطفولة والتعرض للموت

بعد ذلك ينتقل بنا الرائد المسرحي إلى طفولته فيقول: كل ما أذكره من مدارج طفولتي خلال ضباب الماضي السحيق بعض صور تتعاقب في خيالي كحلقة متصلة من الأفراح والأتراح، ولدت بالقاهرة يوم 18 مارس سنة 1901 بحي القبيس، وكنت أصغر أشقائي الخمسة، فما أن بلغت الشهر العاشر حتى عبس القدر في وجهي أول عبساته التجهمية، حيث كانت شقيقتي الكبرى ذات صباح تهز مهدي الصغير المنصوب بين أعمدة سرير من الحديد وهى لاهية عنى تحلم بخطيبها، فلم تلق بالا إلى أن مرقد الطفل أضحى يرتفع إلى أعلى عليين، وعلى حين بغتة سقطت من شاهق وكانت مأساة أدت إلى كسر أرنبة أنفي، وفى سن الخامسة وأنا ألعب (بالطوق) فى الغيط المجاور لمنزلنا بحي الظاهر، وفيما أنا أسابق أترابي من أطفال الحي دفعت طوقي بشدة فعثر برجل حمار مشدود إلى عربة كارو فوقفت حائرا لا أدري ما أفعل، ثم بعد لحظة تردد تقدمت منه وأنا أتوجس شرا ثم تشجعت وسحبت الطوق فى حذر شديد، ففزع الحمار ورفسني بحافره فوق حاجبي الأيسر رفسة مروعة سقطت على أثرها مغشيا على، فتصايح الأطفال وأبلغوا الخبر إلى أهلي فهرع الجميع إلى نجدتي ملهوفين وحملوني إلى المنزل وأنا أرسل صرخات مفجعة، وقد حشرت أصابعي الخمسة في الجرح لأمنع تدفق الدماء منه، وشقيقي الأكبر يزمجر ويهدد صاحب العربة بالويلات بينما أناشده بالرفق به وأقول له: الحق مش على صاحب الحمار، الحق على الحمار!

الشيخ سلامة حجازي .. تأثربه به وبمسرحه وغنائة كثيرا

الشيخ سلامه حجازي

مضت شهور التأم الجرح بعدها وأن كان قد ترك أثرا مازال واضحا إلى اليوم، وكان يقطن فى الدور العلوي من منزلنا أديب يدعى (جورج طنوس)، كان من أشد المولعين بصوت الشيخ سلامه حجازي ومن المتصلين به، فدعا والدي وإخوتي لمشاهدة تمثيلية جديدة وتفضلت الأسرة فاصطحبتني مكافأة لي على رباطة جأشي فى ذلك اليوم المشهود، وما أن بلغنا دار التمثيل العربي في حي الأزبكية حتى احتلت الأسرة مقصورة فى الدور الثاني، ومن ثم وجدتني أطل على صالة تموج بالناس، وبعد فترة أطفأت الأنوار وارتفع الستار الأحمر المذهب فانحسر عن عالم عجيب لا عهد لي به، عالم أجمل وأروع من عالم طفولتي، كانوا يمثلون فى تلك الليلة مسرحية (تليماك) وكانت المناظر فخمة رائعة، وكان الشيخ سلامة يمثل ويغني فينتشي النظارة ويضجون ويتصايحون وقد جن جنونهم من الطرب.

أما أنا فكنت كالمسحور أحملق بعيني الصغيرتين فى هذا العالم الخرافي وأكاد أغيب عن الوجود، أتابع التمثيل والغناء بذهول عميق استحوذ على كياني وجعل قلبي الصغير يخفق خفقات مدوية، لقد أحسست كأنما نبتت لي أجنحة أطير بها فى دنيا الخيال، أو كأن عصا سحرية تفتح أمام عيني المشدوهتين عوالم مضيئة ما زال باقيا فى نفسي إلى اليوم أثرها الوهاج.

جورج أبيض .. بهره مسرحيا وحببه في هذا الفن التمثيلي

سرق ملابس والدته

وقعت في حب وعشق المسرح، وفى التاسعة التحقت بمدرسة الفرير، وكنت من المتفوقين دراسيا، وكنا في ختام كل عام دراسي نمثل مسرحية على مسرح المدرسة منها (ريكاردوس قلب الأسد)، وكنت قد ارتبطت خلال دراستي ببعض الصبية من حي الفجالة الذين شاركوني حبي وهوايتي للتمثيل منهم صبي فرنسي قاهري المولد، وقررنا أن نقدم مسرحية خاصة بنا، أما الرواية والإخراج والملابس فقد تكفلت بها، كما تكفل صاحبي الفرنسي بالمسرح وصعدنا إلى سطح منزلهم لمعاينته فإذا به (تقفيصة فراخ) من الحجم الكبير، وخاب أملي، ولكن ما باليد حيلة والشاطر كما يقول المثل (يغزل برجل حمار) ولم تمض أيام حتى كنا قد نصبنا الأستار وألفنا الرواية ورتبنا الأثاث واحتاج الأمر لثياب فاخرة فغافلت والدتي ولطشت كمية محترمة من الثياب الحريرية والشيلان ومعاطف القطيفة.

وفى الموعد المحدد وحتى نأتي بالجمهور أطلقنا في حواري الحي نزف البشرى ونلوح بأكياس اللب السوداني ونبوت الخفير لمن سيشاهدنا، فلحق بنا جمع حاشد من الصبية وبدأنا التمثيل، وأشهد الله أنني في حياتي لم أفز بمثل النجاح الذي فزت به في تلك الليلة، وما أن انتهت الحفلة حتى عدت إلى البيت مزهوا، أجر أذيال الفخر، وقد نسيت أن أحمل معي ثياب الوالدة ويشاء القدر أن تكتشف فى صبيحة اليوم التالي اختفاء ثيابها، وبعد علقة ساخنة أخذتها وذهبنا إلى صديقي الفرنسي حتى نسترد ملابس الوالدة، وهناك تنكر والدة الصبي وجود أي شيئ وتصعد بنا إلى (تقفيصة الفراخ) للتحقق مما تقول، وبالفعل لا نجد (أي هدمة) وتعود بي السيدة والداتي إلى البيت وهى تتميز غيظا وتزمجر وتصب على رأسي اللعنات.

جورج أبيض

تمر الأيام وأبلغ الرابعة عشر وأعقد صلات حميمة أخوية مع فتي يكبرني بعامين ناضج الفكر، صبوح الوجه، مموج الشعر، رقيق الحاشية يتحدث بلباقة ويسرف في القراءة حتى في فناء المدرسة وقت الفسحة، وقد جذبني إليه ما آنست فيه من بساطة وصراحة ووفاء، ولم تمض أسابيع حتى كنا متلازمين أقرأ ما يقرأ من روايات، ونمضي الساعات في أحاديث الأدب والفن، ويستعير كل منا كتب الآخر، وهكذا تفتحت أمام عيني أبواب عالم جديد براق، وجاء يوم حدثته عن هيامي بالمسرح، فإذا به يساررني بأنه قد ألف مسرحية عربية عن الخليفة الظافر، وأنه بسبيل تقديمها إلى فرقة (جورج أبيض) كان هذا الفتى هو إبراهيم المصري.

وذهبت معه إلى مسرح (جورج أبيض) وعشقت المسرح أكثر بسبب ما شاهدته فى مسرح جورج أبيض من مسرحيات عالمية كان يقدمها لجمهوره مثل (أوديب، لويس الحادي عشر، عطيل) وغيرها، وأولعت بطريقة تمثيل جورج أبيض وسحرني صوته، فقد كنت أصغى كالمسحور إلى صوته الموسيقى الحنون الذي كان يهز قلوبنا في مواقف الحب، كما كان يروعنا في مشاهد العنف والقوة.

سعد زغلول .. ثورته غيرت مجرى حياته تماما

ثورة 1919

فى هذه الفترة انتقلت من مدرسة الفرير إلى مدرسة الليسيه، وتطور حب المسرح فى نفسي إلى ولع وهيام وأهملت دروسي، وبدأت أمثل بالفرنسية وألقي المونولوجات وأشترك في شتى الأندية الفنية، وأختلف إلى مقاهي عماد الدين حيث أتعرف على أدباء المدرسة الحديثة، وتوفى والدي فأهملت دروسي أكثر مما جعل شقيقي الأكبر يغضب مني، والتحقت بوظيفة صغيرة، ونظرا لحبي للتمثيل أفقد وظيفتي فأعود إلى الصعلكة وتحفى قدماي بحثا عن وظيفة، وهنا يعرض علي شقيقي الأكبر العمل بعزبته النائية جهة برمبال القديمة بجوار المنصورة، حتى يبعدني عن التمثيل، فأقبل وأقضي هناك عامين بين مزارع الأرز، وفى هذا الجو الريفي الهادئ أخذت أطالع عشرات الكتب.

 لكن سرعان ما يضيق بي الأمر وأحن إلى التمثيل فأعود إلى القاهرة في أوائل مارس عام 1919 فإذا البلد غير البلد، الجو مشحون بالعواصف، وقد ضج الشعب بالإحتلال والحماية وهزته لفحة جبارة من الحماس الوطني ولا حديث للناس غير حديث الحرية والإستقلال، وعلى حين بغتة يعتقل الإنجليز الزعيم سعد زغلول وينفونه إلى (مالطة) فتتفجر ثورة عارمة فى البلاد، وتتحول البلاد إلى بركان هائل يجتاح الريف والحضر فتقوم المظاهرات في كل مكان وتتوقف المواصلات وتنزع قضبان السكك الحديدية، وتنطلق الملايين في شتي أنحاء القاهرة تهتف بالاستقلال والحرية وبحياة الزعيم سعد زغلول، وأندفع أنا في حماسة الشباب فأهتف مع الهاتفين وأرفع عقيرتي بكلمات الاستقلال والحرية.

التفكير في الانتحار

ترامي إلى شقيقي خبر المظاهرات وحياة الفراغ التى أحياها، فألحقني بمكتبه للاستيراد والتصدير فى العتبة الخضراء، ولكنه كان يسخر من حبي للتمثيل وقراءاتي ويقول لي دائما: (إنت انسان فاشل لا يرجى منك نفع، والجنيهات الثلاثة التى تتقاضاها منى هى صدقة لا تستحقها ولولاي ما كسبت أجرك بشرف يا مشخصاتي).

وفى هذه الفترة فكرت فى الانتحار وفيما كانت تساورني هذه الفكرة السوداء، تداركتني رحمة الله، فألتقيت مصادفة بزميل دراسة، جعل يستفسر عما يكربني، فأنست إليه وكشفت له ما يسبب غمي ويأسي فهون على الأمر ودعاني لأن أتقدم في اليوم التالي إلى امتحان يقيمه بنك (الكريدي ليونيه)، حيث يعمل هذا الصديق، وحيث يطلبون موظفين يتقنون اللغة الفرنسية والحساب، وتقدمت ونجحت وأصبحت موظفا في البنك لكن …؟

…………………………………………………………………………………………..

الأسبوع القادم نكمل مشوار الرائد المسرحي الكبير (فتوح نشاطي).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.