رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

علية وزينب.. والفن المغيّب

بقلم: محمود حسونة

الشخصيات التي تستحق التخليد والتي تحدثنا عن ضرورة تسجيل حياتها توثيقياً أو تناولها درامياً لما بها من أهمية للبلاد والعباد، ليست من الرجال فقط ولكن بينها نساء أشد بأساً وقوةً وأكثر عطاءً وتضحيةً وفداءً من بعض الرجال.

الأسبوع الماضي تناولت في هذا المقال أهمية تسليط الضوء درامياً على حياة سمير الاسكندراني ودوره في كشف تشكيلات للتجسس الإسرائيلي على مصر، بعد التأثير الذي تركه “رأفت الهجان” قبل ٣٠عاماً، وبعد الحالة التي أحدثها مسلسل “الاختيار” عن حياة البطل أحمد المنسي وفريق كتيبته، وبعد التأثير الذي خلفه فيلم “الممر” العام الماضي؛ وتزامن ذلك مع وفاة الفدائية البورسعيدية علية الشطوي، التي بدأت طريق الفداء وعمرها ١٧ عاماً وكانت من أبطال المقاومة الشعبية ضد العدوان الثلاثي على مصر، وخلاله وقفت كما الأسود تدافع عن عرينها وتعرض حياتها للخطر لأجل ألا يدنس تراب بورسعيد أي من المعتدين الاسرائيليين والفرنسيين والانجليز.

علية الشطوي كانت وقت العدوان الثلاثي طالبة في معهد تمريض، وتطوعت للعمل بالمستشفى العسكري في بورسعيد وعملت على استقبال الفدائيين المصابين واخفاء سلاحهم وعلاجهم، كما قامت بنقل السلاح بين المتطوعين في أحياء المدينة بسيارات إسعاف، وتعرضت المستشفى للقصف من قوات العدوان وبقيت هي ثابتة في أداء عملها وبذل تضحياتها لمعالجة المصابين وتضميد الجرحى، كما الجبال التي لا تزحزحها ريح عابرة ولا تقلبات جوية طارئة.

ولَم تكن معركة بورسعيد معركتها الوحيدة ولكنها اتخذت التضحية والفداء نهجاً وعقيدة، ولَم تخض مصر معركة بعد ذلك إلا وكانت علية واحدة من جنودها المتطوعين المستعدين لبذل الحياة فداءً للوطن وأهله.

في حرب أكتوبر ١٩٧٣ أيضاً تطوعت علية وكانت تقود بنفسها لنشاً بحرياً لنقل الجرحى من سيناء إلى بورسعيد للعلاج، وقد ذكرت في حوار معها أن المشير محمد حسين طنطاوي كان أحد الجرحى الذين نقلتهم باللنش للعلاج، وكان وقتها برتبة مقدم.

ليست علية الشطوي التي توفيت الأسبوع الماضي، الفتاة الوحيدة التي اختارت العمل الفدائي خلال الحروب التي خاضتها مصر، فهناك أيضاً البطلة زينب الكفراوي، والتي تعد أول فتاة تتطوع في المقاومة الشعبية ببورسعيد، وقد بدأت رحلتها الفدائية وعمرها ١٥ عاماً، وتحديداً في العام ١٩٥٤، حيث تطوعت مع مجموعات فدائية لمقاومة الوجود الانجليزي في مصر، وشاركت في حملة لجمع التبرعات لتسليح الجيش، تحت شعار “سلح جيش أوطانك واتبرع لسلاحه علشاني وعلشانك”؛ وبعد اشتعال الحرب الثلاثية على مصر انضمت للمقاومة الشعبية، وخلالها تعددت مهامها، فقامت بتوزيع المنشورات على أبناء المدينة لحثهم على التطوع في مقاومة العدوان، وساهمت في

إخفاء الضابط البريطانى “مير هاوس”، ابن عمة ملكة بريطانيا، بعد أن ساعدت مجموعة الفدائي الراحل “محمد حمد الله” في اختطافه، وكانت من أكبر العمليات التي نفذها الفدائيون “حسب وصفها”.

زينب الكفراوي وعلية الشطوي قدمتا الكثير فداءً للوطن، ومن المؤكد أن الأجيال البورسعيدية التي عايشت العدوان الثلاثي ونكسة يونيو وحرب ١٩٧٣ يعرفون قدرهما جيداً، ولكن ليس من المؤكد أن الأجيال الشابة وباقي أهل مصر يعرفونهما، وربما تطوي وفاتهما صفحتهما البطولية نهائياً، وتضيع تضحياتهما في مجاهل النسيان رغم ما في حياة كل منهما من دراما تتوافر فيها كل عناصر النجاح من تشويق وإثارة ومفاجآت .

صحيح أن الرئيس عبد الفتاح السيسي قام بتكريم زينب الكفراوي في مؤتمر الشباب بالإسماعيلية وكانت فرصة لتقديمها للأجيال الجديدة قدوة تحتذى، وصحيح أن اللواء عادل الغضبان نعى علية الشطوي بكلمات تعبر عن قدرها وقيمتها الوطنية وقرر إطلاق اسمها على أحد شوارع بورسعيد، ولكن هذا لا يكفي.

مصر الرسمية كرمت، ومصر الإبداع والدراما والفن تغط في نوم عميق، بل هي غارقة في وحل إنتاج أعمال تنشر العادات السلبية، بدلاً من أن تقدم علية وزينب وغيرهما من بطلات ومبدعات مصر وأبطالها ومبدعيها الحقيقيين في أعمال يتعلم منها النشء ويستمتع بها الجميع.

ويبدو أن السادة القائمين على الإنتاج الدرامي والحاملين لمسؤولية الإعلام المصري ينتظرون توجيهاً سيادياً لتقديم أعمال تخلد أبطالنا وبطلاتنا وتمنح الطاقة الايجابية للمجتمع كله بدلاً من تعميم الطاقة السلبية.

لا يكفي فيلم “الممر” وحده سينمائياً ولا يكفي مسلسل “الاختيار” وحده درامياً، بل لا يكفي انتاج مسلسل واحد من هذه النوعية سنوياً وترك الشاشات والمنصات باقي السنة ليغلب عليها الطابع الذي لا يبقي ولا يذر.

الراحل يوسف شاهين قدم فيلما عن حياة المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد وكان اسمها في الفيلم جميلة بوحريد، المهم أن هذا الفيلم خلد بوحيرد وجعل منها أيقونة جزائرية، ظل أهل بلد المليون شهيد يتفاخرون بها، وجعلها تنتقل من بلد لبلد للتكريم عما قدمته لبلدها، ولولا الفيلم المصري ما عرف أحد جميلة بوحيرد، ولطواها النسيان الذي طوى فدائيات وبطلات وشخصيات مصرية عظيمة تجاهلتها الدراما وأدار لها الفن وأهله ظهورهم.

 تاريخنا ملئ بالصفحات والشخصيات التي

ينبغي أن يتعرف عليها أولادنا، ولن نكل ولن نمل من الصراخ المتكرر مطالبين بتغيير نهج الانتاج الدرامي، لعل أحد يسمع في النهاية.

[email protected]

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.