رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمد القصبجي .. موسيقار سبق عصره بـ 100 سنة

لحظة تأمل قبل وضع لحن شرقي أصيل

* كان والده يصحبه إلى تياترو “اسكندر فرح” ليستمع إلى الشيخ ” سلامه حجازي

* أول لحن له هو “وطن جمالك فؤادي يهون عليك ينضام”

* “بعد العشا” و”شال الحمام” أول ألحانه قامت بغنائهما “منيرة المهدية”

* “آل ايه حلف ما يكلمنيش” ربطه بكوكب الشرق عاطفيا وإنسانيا حتى نهاية رحلته

* “يا طيور” لحن أثبت عبقريته الموسيقية، وخلد أسمهان

* أكتئب لعدم حصوله على جائزة الدولة التقديرية ومرض وعانى من الوحدة

هكذا كان يجلس في صمت خلف كوكب الشرق

كتب : أحمد السماحي

نحتفل خلال الأيام القادمة بذكرى رحيل واحد من المجددين والمظلومين في تاريخ الموسيقى المصرية، وهو الموسيقار “محمد القصبجي”، ( 15 إبريل 1892 ــ 25 مارس 1966 )، والذي لم يحظى بنصيب وافر من الشهرة في حياته أو حتى بعد وفاته، وكثير من الناس تجهل الدور الذي لعبه فى تطور الموسيقى المصرية، وتنظر له على أنه كان عازفا في فرقة “أم كلثوم”، ويجلس خلفها محتضنا آلة “العود” في صمت.

تميزت أعماله بتلوين المقامات العربية فى ألحانه، كما تميزت بصعوبة الانتقالات اللحنية وسلاستها عند الغناء، فأتت كلها في أسلوب السهل الممتنع، يقول عنه الكاتب والناقد “صميم الشريف”: ربما كان الموسيقار “محمد القصبجي أهم موسيقي وملحن مر على الوطن العربي في القرن العشرين، على الرغم من شهرته المتواضعة التى طغت عليها أسماء العمالقة الآخرين مثل “سيد درويش، زكريا أحمد، محمد عبدالوهاب، رياض السنباطي، وحتى فريد الأطرش”.

بالعمامة وقت أن كان طالبا بالثانوي

الميلاد والنشأة

ولد القصبجي يوم 15 أبريل 1892، وقد استقبل والده المنشد والمقرئ “علي إبراهيم القصبجي” ولده بحارة “قواديس” بشارع “حسن الأكبر” بحي عابدين، وكانت والدته السيدة “عائشة عثمان بشناق” غير متعلمة، ولكنها كانت تتمنى أن يكون ابنها “أفنديا” مثقفا يتكلم الفرنسية والإنجليزية، ويختال بالبدلة والطربوش وتفخر به بين أولاد الحي.

التحق ” محمد” وهو فى التاسعة من عمره بمدرسة أولية وحفظ القرآن، ثم ألحقه أبوه عام 1903 بمدرسة “عثمان باشا ماهر” الابتدائية بالقلعة، واضطر الطفل أمام المستقبل الذي اختاره له والده أن يرتدي العمامة والقفطان، وكان ناظر هذه المدرسة الشيخ “أحمد الحملاوي” والذي كان شاعرا وعالما فى فروع اللغة العربية، ولمح علامات الذكاء على “محمد القصبجي” فأولاه رعاية خاصة، وكان الطفل يحب نداءات الباعة بأصواتهم الجميلة، ولم يكن مصروفه يسمح له بشراء آلة عود، فلجأ إلى نجار الحي ليتبرع له بقطعة من الخشب ذات رقبة تشبه إلى حد ما رقبة العود وثبت على قطعة الخشب هذه “رزتين” خلعهما من “تختة” المدرسة، وكان كلما انقطع وتر من عود والده تلقفه وشده على قطعة الخشب، وأخذ يداعبه بأنامله ليخرج النغم الذي تلتقطه أذناه.

مع كوكب الشرق وعملاق المسرح يوسف وهبي

التأثر بسلامه حجازي

كان والد “القصبجي” يصحبه إلى تياترو “اسكندر فرح” بشارع “عبدالعزيز” ليستمع إلى الشيخ “سلامه حجازي” فى ألحان مسرحياته، وفي عام 1911 تخرج “محمد القصبجي” بمدرسة المعلمين، وعين مدرسا بإحدى المدارس، ولكن الموسيقى كانت قد أخذت كل حياته وتأثر بما سمعه من الشيخ “سلامه”، فاحترف الغناء والعزف، ونظم بنفسه بعض الأدوار التى لحنها منها “الحب له فى الناس أحكام، يا قلب ليه سرك تذيعه للعيون” وغيرها، وأخذ يغني الأدوار القديمة فى الحفلات الساهرة، وأصبح

مع عبد الوهاب يضحكان على نكتة أطلقتها ثومة

زميلا لمطربي ذلك العهد امثال “علي عبدالباري، زكي مراد، أحمد فريد، عبدالله الخولي، عبداللطيف البنا، صالح عبدالحي”.

وطن جمالك

كان أول لحن له هو “وطن جمالك فؤادي يهون عليك ينضام”، وهو من كلمات شاعر عصره الشيخ ” أحمد عاشور” الذي ألف لكلا من “المسلوب، محمد عثمان، عبده الحامولي، الشلشلموني” وغيرهم، وفي عام 1919 سمعه

مع أعضاء لجنة الموسيقى في ركن من أركان النادي

“مصطفى بك رضا” رئيس نادي الموسيقى الشرقي، ومحمد العقاد الكبير عازف القانون المعروف فأعجبا بمهارته فى العزف على العود، وأقنعه “العقاد الكبير” بأن يحترف الفن، واستطاع أن يضمه إلى تخته الموسيقى كعازف عود.

وفى عام 1920 أراد “القصبجي” أن يتجه اتجاها آخر فى التلحين، فاتفق مع صديقه الشيخ “محمد يونس القاضي” على تأليف بعض الأغنيات الخفيفة ليقوم بتلحينها، فكتب الشيخ “يونس” مجموعة منها “بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة، شال الحمام حط الحمام”، وقامت بغنائهما الست

مع أم كلثوم وفكري أباظة وبعض الأدباء في سهرة

“منيرة المهدية”، وفى هذه الفترة التقى فى منزل أحد أصدقائه بشاب في العشرين من عمره استمع منه إلى لحن “أنا المصري كريم العنصرين” للشيخ “سيد درويش”، فأعجب بإحساسه وأدائه المرهف، وسرعة التقاطه للنغم، كان هذا الشاب هو “محمد أفندي عبدالوهاب” عضو كورال فرقة “سيد درويش” المسرحية.

وفى أواخر عام 1923 اتفق أحد متعهدي الحفلات مع مطربة السيرة النبوية “أم كلثوم إبراهيم” وبطانتها على إحياء حفلة بمسرح تياترو “بابلوت باسك” وكانت هذه أول مرة تظهر فيها الآنسة “أم كلثوم” بالقاهرة، وكان “القصبجي” ممن أسعدهم الحظ بسماع المغنية الريفية الجديدة ذات العقال، فسمع لأول مرة فى حياته صوتا له وقع السحر في النفس، ينشد قصائد فى مدح الرسول، واختتمت حفلها بأغنية “في غرامه يا ما شفت عجائب” للملحن إبراهيم فوزي، فأعجب بحلاوة صوتها ورقة أدائها، وغمرته موجه من الفرح لأنه اهتدى إلى الصوت الذي يستطيع أن يؤدي أسلوبه الجديد فى التلحين على النحو الذي يجيش فى خياله، وهو اللون الجاد الكلاسيكي الذي شق به طريقه فى ميدان التلحين.

مع أعضاء الفرقة الموسيقيى

آل ايه حلف ما يكلمنيش

عندما تعاقدت  شركات الأسطوانات مع “أم كلثوم” على حوالي 15 أسطوانة من تلحين “أحمد صبري النجريدي، والشيخ أبو العلا محمد”، عهد إلى “محمد القصبجي” بتلحين أول غنائية عام 1924 لأم كلثوم وهى “آل ايه حلف ما يكلمنيش” ومن هنا ارتبط بكوكب الشرق عاطفيا وإنسانيا حتى نهاية رحلته.

التجديد الموسيقى

يقول عنه الناقد الموسيقى الكبير فيكتور سحاب: “كان القصبجي قادرا على استخدام الفنون التقنية الغربية فى الموسيقى، دون أن يفقد روحه العربية الأصيلة، ما دامت جذوره ضاربة فى عمق التراث العربي الموسيقى، وما دامت شخصيته العربية الموسيقية مكتملة التكوين”.

و لا يمكن أن نتحدث عن “محمد القصبجي” دون أن نذكر تجديداته فى المونولوج الغنائي بداية من “إن كنت أسامح وانسى الآسية” التى أعتبرها البعض وقت غنائها بأنها منعطف تاريخي هام فى مسيرة الغناء، ونقلة حضارية فى التعبير عن المضمون، وأن “القصبجي” نقل فن الغناء من تقاليده التى عفى عليها الزمن، إلى لغة العصر الذي نعيش فيه”.

مع وديع الصافي

كما أبدع وجدد فى كلا من “رق الحبيب، أنا قلبي دليلي، أوبرا عايدة لأم كلثوم”، وغيرها، وصعب أن تقف عند كل تجديدات القصبجي في الأغنية العربية، لكننا اخترنا أغنية “الطيور” كنموذج لهذا التجديد سابق عصره بـ 100 عام لنتوقف عندها.

تقول الدكتورة “رتيبة الحفني” عن هذا التجديد: عند الحديث عن التجديد لابد أن نذكر أغنية “يا طيور” فيها انتقل القصبجي فى تلحينه لهذه الأغنية إلى الأسلوب الغربي فى الإلقاء الغنائي لصوت السوبرانو “الكوليراتوار”، وهو أحد ألوان الأصوات النسائية، بعد تطويعه للغناء العربي، وفى هذه الأغنية أيضا جعل صوت المطربة يظهر من خلال العرض الصوتي فى قسم الآهات الذي اختتم به الأغنية، بإمكانات لم تكن مألوفة فى الغناء العربي من قبل.

كان القصبجي يرى أنه من خلال العرض الصوتي الحر، يمكن أن يرتفع اللحن، خاصة إذا كان مؤديه قادرا على أدائه، بدأ “القصبجي” الأغنية بمقدمة موسيقية تعبر عن تحرك أسراب الطيور بأشكالها المختلفة، مستعينا بالسلم الكروماتي صعودا، مما يعطي الإيحاء بصعود الطيور إلى أعلى الفضاء مع زيادة فى السرعة، ثم يقوم بإدخال إيقاع جديد على المقدمة يوحي بحركة أجنحة الطيور، وفى ختام المقدمة يمهد اللحن للغناء بإعطاء الإحساس للمستمع بإرساء الطيور على الأشجار.

يبدأ الغناء بكلمة “يا طيور” بالمد بحرف الواو، ثم تأتي لازمة موسيقية تتميز بالضغوط القوية على كل نغمة، توحي برد فعل الطيور للنداء، وتتوالى المقاطع الغنائية، وفيها نلاحظ تغيير “القصبجي” للموازين الموسيقية والإيقاعات، كذلك الانتقال بين المقامات، ليصور أطوار الطيور فى فرحهم وحبهم وعذابهم، مترجما معاني كلمات الأغنية.

وتختتم ” أسمهان” الأغنية بمحاكاة بين صوتها وآلة الكمان التى تعبر عن صوت الطير، بتسلسل سلمي صاعد وهابط مع بعض القفزات، وهذا الجزء أشبه ما يكون بالتدريبات الصوتية للغناء الغربي.

مع عايدة هلال وبديع سربية

المسرح الغنائي

كان للقصبجي دوره فى المسرح الغنائي فى الفترة ما بين عام 1924 حتى عام 1927 لمنيرة المهدية مثل مسرحيات “المظلومة، كيد النساء، حياة النفوس، حرم المفتش”، وللفنان نجيب الريحاني لحن ثلاثة ألحان في أوبريت “نجمة الصبح”.

المؤلفات الموسيقية

قدم ” القصبجي” العديد من المؤلفات الموسيقية، وكان من أوائل من ألف الموسيقى الآلية غير التقليدية، وفى مقدمتها رائعته “ذكرياتي”، سماعي راست، مناجاة، نزوة أسبانية، شكوى غرامي، اللي في بالي، أمل، أمنيتي، بعد الغياب، حيرة، من وحي أفكاري.

السينما

قدم الموسيقار المجدد للسينما المصرية مجموعة من الروائع الخالدة فى حوالي 40 فيلما سينمائيا بدأها عام 1932 بفيلم “الضحايا”، حيث غنت له الصوت الجديد ” ليلى مراد”أغنية بعنوان “يوم السفر”، بعدها تتالت الأفلام التى قامت ببطولتها مطربات ومطربين، فنجد أنه شارك فى كل أفلام أم كلثوم، ومعظم أفلام “ليلى مراد، نور الهدى، رجاء عبده، أسمهان، فتحية أحمد، سعاد محمد” وغيرهم من هذه الأفلام ” الأتهام، وداد، ليلى بنت الصحراء، نشيد الأمل، ليلة ممطرة، دنانير، ليلى، عايدة، برلنتي، ليلى في الظلام، يسقط الحب، الأبرياء،حسن وحسن، وحيدة، حنان، ليلة الجمعة، شهداء الغرام، غرام وانتقام، أول الشهر، ليلى بنت الفقراء، قلوب دامية، أحب البلدي، أنا وابن عمي، الحياح كفاح، الحظ السعيد، ضربة القدر، غدر وعذاب، قلبي دليلي، قبلني يا أبي، فتاة من فلسطين، حدث ذات ليلة، فاطمة، المستقبل المجهول، شاطئ الغرام، مصري في لبنان”.

مع الزعيم الراحل جمال عبد الناصر

جائزة الدولة التقديرية

أحس القصبجي فى سنواته الأخيرة بظلم الناس وتجاهلهم له، وعندما اعتكف بالمنزل، فلم يسأل عنه أحد، عاش فى محنة وهو يحس بالوحدة، لم يجد أحدا من زملائه أو تلاميذه يسأل عنه، فزاد مرضه، وقلت رغبته فى الحياة، فقد أحس أنه لا مكانة له بين الناس ورجال الفن، خاصة بعد أن رشحه معهد الموسيقى العربية للحصول على جائزة الدولة التقديرية عام 1965 لريادته وتجديده للغناء العربي، لكن ذهبت الجائزة للمهندس المعماري “علي لبيب جبر”.

الرحيل

كان القصبجي يعاني في سنواته الأخيرة من تصلب في الشرايين، وقرحة فى الإثنى عشر، وصداع مستمر، ودخل المستشفى اليوناني يوم 2 يوليو 1965 لإجراء بعض التحليلات الطبية، تمهيدا لاستئصال قرحة الأثنى عشر، ولكنه لم يستطع المكوث

عاش في صمت ومات في صمت غير مكرم كما تمنى

بالمستشفى أكثر من 48 ساعة، توترت فيها أعصابه، خوفا من إجراء العملية فرجع إلى منزله، لكنه أصيب يوم 10 ديسمبر بجلطة في المخ، وشلل نصفي أيسر، ونجا من هذه الأزمة، وطلب منه الأطباء الراحة وعدم الانفعال، إلا أنه لم يعمل بنصائح الأطباء، بل غادر المنزل رغم اعتلال صحته، وحضر اجتماع لجنة الموسيقى الذي عقد يوم 21 ديسمبر، وهو الاجتماع الذي كان مقررا فيه النظر في الترشيح للجائزة التقديرية، التى كان يأمل الحصول عليها.

وفي يوم الجمعة الموافق 25 مارس وفى العاشرة مساء أحس القصبجي بآلام في صدره، وانتابته أزمة قلبية، لم تمهله أكثر من عشر دقائق، فارق بعدها الحياة وشيعت جنازته يوم السبت 26 مارس 1966 .

……………………………………………………………………………………………………………………..

رامي يرثي القصبجي

بعد وفاة محمد القصبجي، أقامت نقابة الموسيقين حفل تأبين له، ويومها رثى الشاعر الكبير أحمد رامي، زميل الطرب بقصيدة رائعة قال فيها :

عاشرته خمسين عام، مرت كأحلام النيام

خطرت كأطياف الرؤى، وسرت كأسراب الغمام

وترواحت أيامها، ما بيع دمع وابتسام

بستان من روض الصبا، ما أفتر من ثغر الكمام

حسنا يحيينا بطلعته فنسعد بالسلام

ومتى تناجينا فيحلو بيننا همس الكلام

نختال فى مغدى الهوى ونعب من كأس الغرام

ونهيم ما بين الخمايل، مثل أزواج اليمام

أشكو فينظم شكوتي باللحن عقدا فى نظام

نغما يشف عن الصبابة، في فؤاد المتهمام

ويرف فى سمع النسائم مثل أجنحة الحمام

ويموج فى جو الشجى ما بين لطف وانسجام

نغم يخف إليك فى الآصال من وادي السلام

يا صاحبي إن كان فرقنا الزمان فلا انفصام

ما زلت فى سمعي حنينا يستخف إلى الهيام

أصغى إلى ما أبدعت يمناك من حلو المقام

فأراك تنثر بيننا نغما كأنفاس المدام

يحلو عن النفس الصدا، ويرد للعين المنام

إن جف عودك فالعبير، يموج ما بين الأكمام

أو غاب صوتك فالرنين يجول فى سمع الأنام

فاهدأ فما غاب الذي يحيا بآثار كرام

العمر يمضي غير أن الذكر فى حسن الختام.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.