رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

الشاعر” محمود درويش” يركع تحت قدمي”نادية لطفي”

الشاعر" محمود درويش" يركع تحت قدمي"نادية لطفي"
تجلس في بيتها الراقي
كتب : أحمد السماحي

كانت النجمة الراحلة “نادية لطفي” روح تتمتع بشفافية عالية، لم تكن مجرد فنانة جميلة مرت في تاريخ السينما المصرية، ولكنها كانت صاحبة موقف ورأي في قضايا بلدها وأمتها العربية، وكانت من أكبر الداعمين للقضية الفلسطينية، وتربطها صداقة وطيدة بالرئيس الفلسطيني الراحل ” ياسر عرفات”، وحدث عام 1976،  وبالتحديد صبيحة الثلاثين من مارس أن استشهدت “خديجة قاسم شواهنة”، البالغة من العمر ثلاثة وعشرون عاما عندما خرقت رصاصات الغدر ظهرها، وكانت عزباء تساعد أهلها على الزراعة وتربية إخوانها، في صبيحة يوم الأرض 30 مارس، تعالت أصوات الصراخ من البلدة فتوجه أخو الشهيدة “خالد” البالغ حيذاك تسعة أعوام للاطلاع على الأمر فطلبت الام من الأخت الكبرى “خديجة” اللحاق به، ولكن قلب الأم شعر بأن خطرا ما يحدق بأبنائها فقد أسرعت ورائها فاصطدمتا بقوة من الجنود الإسرائيلين الذين طلبوا منهن العودة إلى البيت فورا لأن هناك أمرا بمنع التجول بالقرية، وعندما إدارت “خديجة” ظهرها برفقة أمها وإذا بنيران الحقد والغدر تخرج من فوهة بندقية الجندي القاتل لتخترق ظهر الشهيدة، لتزف إلى سماء المجد والخلود على الفور، وعلى بعد ٥٠ مترا فقط من بيت والديها.

إغتيال ” خديجة شواهنة” فجر براكين الشعر عند شاعرنا الفلسطيني الكبير “محمود درويش” فأحب تخليدها فكتب قصيدة رائعة عن الشهيدة بعنوان ” الأرض” يقول مطلعها :

في شهر آذار ، في سنة الانتفاضة ، قالت لنا الأرض

أسرارها الدمويّة

في شهر آذار مرت أمام

البنفسج والبندقيّة خمس بنات

وقفن على باب مدرسة ابتدائيّة

واشتعلن مع الورد والزعترالبلدي

افتتحن نشيد التراب، دخلن العناق النهائي

آذار يأتي إلى الأرض من باطن الأرض يأتي

ومن رقصة الفتيات البنفسج مال قليلا

ليعبر صوت البنات

العصافير مدت مناقيرها

في اتجاة النشيد وقلبي.

أنا الأرض والأرض أنت

خديجة ! لا تغلقي الباب

لا تدخلي في الغياب

سنطردهم منإاناء الزهور وحبل الغسيل

سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل

سنطردهم من هواء الجليل

وفي شهر آذار

مرّت أمام البنفسج والبندقيّة خمس بنات 

سقطن على باب مدرسة ابتدائيّة

للطباشير فوق الأصابع لون العصافير

في شهر آذار قالت لنا الأرض أسرارها

الشاعر" محمود درويش" يركع تحت قدمي"نادية لطفي"
في زيارة للراحل الكبير ياسر عرفات وقت الحصار

قرأت “نادية لطفي” القصيدة كاملة، ومست أبياتها مشاعرها المرهفة، وانهمرت دموعها بغزارة، وأصرت أن تتحدث مع “محمود درويش”، شاعر القصيدة، وبعد بحث وتنقيب عثرت على تليفون بيته، واتصلت ولم يرد أحد، ومرة واتنين وثلاثة، ولا أحد يجيب، وبالمصادفة وبعد مرور أسابيع اتصلت فرد “درويش”، وبمجرد أن عرفته بنفسها أجهشت بالبكاء عندما بدأت تذكره بقصيدته الرائعة عن “خديجة شواهنة”.

ومرت السنوات وعندما حاول العدو الإسرائيلي كسر بريق الرجل العربي على حد تصريحها معي فى أحد حواراتنا، وأثناء الحصار الإسرائيلي الفلسطيني في لبنان عام 1982، ذهبت ” نادية” وعاشت في لبنان لتدعم وتساند القضية، وأثناء ذلك زار الشاعر الفلسطيني لبنان في زيارة سريعة، وعلم أن النجمة المصرية “نادية لطفي” موجودة، فأصر على زيارتها فى مكان إقامتها، وركع على قدميه، أمامها – على حد قولها – ليشكرها، لمساندتها لبلده ولكل القضايا العربية، حكت لي الراحلة هذا الموقف لتأكد إنسانية “درويش”، وليس للتباهي أن شاعر بحجمه ركع تحت قدميها!.

وتمر السنوات سريعا  وذات ليلة خريفية في نوفمبر 1988، كانت “نادية لطفي” في “الجزائر”، وكان بصحبتها النجم “نور الشريف”، وفي تلك الليلة استمعت إليه وهو يلقي بصوته المؤثر قصيدة “الأرض” لمحمود درويش، وعند المقطع الذي يقول فيه:

” بلادي البعيدة عني … كقلبي !

بلادي القريبة مني … كسجني !

لماذا أغنّي، مكانا ، ووجهي مكان؟

لماذا أغنّي، لطفل ينام على الزعفران

وفي طرف النوم خنجر، وأمّي تناولني

صدرها، وتموت أمامي، بنسمة عنبر؟”

سرت قشعريرة خفيفة في جسد نادية، وكلما تكرر المقطع بصياغات تصاعدية، زاد تأثرها، من دون أن تدري سر هذا الشجن الذي أثارته القصيدة، حتى وصل نور إلى مقطع من القصيدة يقول فيه درويش:

وفي شهر آذار تأتي الظلال حريرية والغزاة بدون ظلال

وتأتي العصافير غامضة كاعتراف البنات

وواضحة كالحقول

العصافير ظلّ الحقول على القلب والكلمات .

خديجة ! أين حفيداتك الذاهبات إلى حبّهن الجديد ؟

ذهبن ليقطفن بعض الحجارة

قالت خديجة وهي تحث الندى خلفهنّ .

وفي شهر آذار يمشي التراب دما طازجا في الظهيرة

خمس بنات يخبّئن حقلا من القمح تحت الضفيرة

يقرأن مطلع أنشودة عن دوالي الخليل

ويكتبن خمس رسائل : تحيا بلادي

من الصفر حتى الجليل

ويحلمن بالقدس بعد امتحان الربيع وطرد الغزاة

خديجة ! لا تغلقي الباب خلفك”

الشاعر" محمود درويش" يركع تحت قدمي"نادية لطفي"
إلقاء نور الشريف لقصيدة درويش أبكاها طوال الليل

انهمرت الدموع غزيرة من عينيها، وشعر الحاضرون بسخونة دموعها وإنسانيتها الشديدة والتعاطف مع الشهيدة الفلسطينية “خديجة الشواهنة”، ولما صعدت “نادية” إلى غرفتها ظلت ساهرة حتى الساعات الأولى من الصباح تبكي، ورغم محاولات النجم “نور الشريف” والوفد المصري وبعض من الجزائريين تهدئتها، يومها “جاءت لها كريزة بكا” – على حد تعبيرها معي – ولم تستطع تمالك نفسها حتى راحت في النوم فتركها الحضور وخرجوا من غرفتها.

هذه هي نادية لطفي الفنانة الإنسانة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.