بقلم الباحث المسرحي الدكتور: كمال زغلول
من الغريب وجود نص مسرحي يتحدث عن بدء الخليقة في (المسرح) المصري القديم، وهذا النص عثر عليه من خلال لوحة شبكا (ملك مصر الموحدة)، وهو الفرعون الذي حكم مصر في بداية القرن الثامن قبل الميلاد.
وفي بدايته يوضح (شباكا)، أن هذا النص نسخة من المحتويات الباقية من ورق البردي المتحلل المليء بالديدان والذي عثر عليه الفرعون( شباكا) في معبد بتاح الكبير.
وعندما وجدها (شباكا)، أمر أن تكتب من جديد على هذا الحجر للمحافظة عليها، وهذه المسرحية من النصوص الهامة في تاريخ (المسرح) المصري القديم.
فهي تقدم لنا أفكار العقلية المصرية القديمة، في صورة الإنتاج الفكري للحضارة المصرية في منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد؛ وهى أقدم الأفكار التي وصلت إلينا مدونة في تاريخ العالم لأقدم أقوام.
وهذه المسرحية خاصة بالفكر الديني لمدينة (منف)، عاصمة مصر القديمة بعد توحيدها من قبل الملك (مينا)، وكان الإله الخاص لها هو بتاح، الصانع الأعظم الذي خلق العالم.
ولكن موضوع هذه المسرحية، يتحدث عن (أتوم – آدم عليه السلام)، فبداية المسرحية تتحدث عن خلق مصر بواسطة بتاح، وأنه هو الذي خلق العالم بوساطة الإله (أتوم)، إذ كان ينظر إلى بتاح على أنه إله خالق، وحرفي إلهي للكون.
كان مسؤولاً عن كل الوجود، و كان الخلق في البداية نشاطًا روحيًا وفكريًا، سهلة القلب الإلهي (الفكر) واللسان (الكلام/ الكلمة) لبتاح، ثم أصبح الخلق نشاطًا جسديًا قام به (أتوم).
والمعنى يكون أن الإله الخالق، يؤمر بكلمة كن فيكون، وبعد خلق الإنسان الأول (أتوم)، الذي هو (آدم) أبو البشر، والذي اعتقد المصريون بأنه إله، منحرفين عن عقيدة التوحيد – كما ذكرنا من قبل في المقالات السابقة.
بداية عصر الإنسان على الأرض
ومن تحليل عبارة خلق العالم بواسطة (أتوم)، يتضح أنها تعني بداية عصر الإنسان على الأرض، ومرحلة التزاوج بين أتوم وزجته إشتي (ومعناها التي تحيا.. حواء) كانت بداية المرحلة الإنسانية.
إذ أعتقد المصري القديم أن الخلق بدأ في صورة نشاط جسدي (العلاقات الزوجية) والتي تأتي بالذرية، وبالطبع هذه الذرية من (أبناء أتوم) ظهر منها الصانع، والزارع، والمحارب، والملوك.. إلخ، ولهذا كان (أتوم) على قمة التاسوع الإلهي المصري، يحكم بين البشر، وأن المصريين ينتسبون إلي أتوم (آدم عليه السلام).
ونسوق مثال من نص (مسرحية بدء الخليقة) يتحدث عن بتاح.. هكذا قيل عن (بتاح): (هو الذي صنع كل شيء وخلق الآلهة).. وهو(تاتينن)، الذي أنجب الآلهة، والذي جاء منه كل شيء.
أولاً: الأطعمة، والمؤن، والقرابين الإلهية، وكل الأشياء الطيبة.. وهكذا يكون الأمر.. أدرك وفهم أنه أقوى الآلهة، وهكذا، كان (بتاح).. لقد كان راضيًا بعد أن صنع كل الأشياء وكل الكلمة الإلهية.. حقًا.
وهذا الجزء من نص (المسرح) يتحدث عن الإله بتاح في خلقة للعالم، ونلاحظ في هذا الجزء أن بتاح خلق الآلهة (أتوم، وجب، ونوت.. إلخ )، فهم البشر الذين ألههم المصريون ، وانحرفوا عن عقيدة التوحيد.
ولهذا تبدأ المسرحية ببتاح وخلقه (أتوم)، ثم تتنقل إلي الصراع على ملك مصر، ولكن توجد أجزاء تالفة من النص، لم تظهر لنا الأحداث كاملة، ولكن وجد جزء كامل يسرد حادثة تقسيم مصر على يد الإله (جب) بين (حور وست) لحسم النزاع القائم بينهما.
ويحاور جب كلا من (حور وست) فيأمر ست بالذهاب إلى الوجه القبلي مكان ميلاده ويتولى حكمه، ويأمر حور بالذهاب إلي الوجه البحري، مكان ميلاده ويتولى حكمه: وهذا جزء من النص (المشهد).
(جب) يخاطب (ست):
اذهب إلى المكان الذي ولدت فيه ست الوجه القبلي.
(جب) يخاطب (حور) :
اذهب إلى المكان الذي أُغرِق فيه والدك (حور) الوجه البحري.
(جب) يخاطب (حور) و(ست).
لقد فصلتكما الوجه (البحري والقبلي).
فكر مدرسة منف القديمة
وبعد ذلك يعدل (جب) عن قراره، ويحن قلبه إلى (حور) ويقرر أن يوليه حكم مصر كاملا: مشهد (جب) يخاطب التاسوع: لقد قررت يا (حور) أن تكون ابن أوى المحنط.
وأن تكون انت وحدك يا حور وارثا.
وأن يكون لهذا الوارث حور إرثي.
وأن يكون لابن ابني (حور).
وبكر أولادي (حور) فاتح الطريق وإنه الابن الذي ولد لي.
أي حور في يوم ولادة ابن آوى (وبوات).
وهكذا نكون قد عرضنا أهم مسرحيات (المسرح) المصري القديم، وهى بدء الخليقة بالنسبة لفكر مدرسة منف القديمة، وهذا الفكر يؤكد على أن مصر كانت على التوحيد الخالص، وانحرفت إلى عبادة البشر.
كما أن هذه المسرحية تؤكد على وجود أدم أبو البشر، وغيره من الأنبياء، مما ينفي مقولة لا وجود لآثار الأنبياء على أرض، كما أن هذه المسرحية تعطي تفسيريا، للديانات والفلسفات المنحرفة التي تقول أن الإله خلق ولد أو مخلوق أولي خلق بواسطة العالم.
فالفكرة مصرية، ثم انتقلت إلى هذه الديانات والفلسفات المنحرفة، وهذا النقد التفسيري لتلك المسرحية يقدم للمسرحي الحديثي تفسيرا للمسرح المصري، بعيدا عن تفسيرات الغرب العقيمة التي ليس لها أيه قيمة تفسيرية.
وبهذا نكون قد قدما أول عمل ظهر فيه (آدم) أو البشر وأول الأنبياء، في صورة نص مسرحي، وظهره كشخصية حاكمة في نصوص أخرى كما قدمنا في مقالات سابقة بأنه حكم بأن حمل إيزيس جاء من أوزيريس.
وبهذا النص يكون (آدم) أول مخلوق بشري خلقه بتاح، وفي نصوص أخري مدونه على معبد إسنا خلقه خنوم من الطين، مؤكدين على وجود (آدم) عند المصريين القدماء وأنهم ينتسبون إليه كبقة البشر.