ذكرى عملاق الموسيقى (رياض السنباطي) الذي رفض والده أن يتبناه سيد درويش!
كتب: أحمد السماحي
نحيي بعد غد الثلاثاء 10 سبتمبر الذكرى الـ 43 لرحيل عملاق الموسيقى المصرية (رياض السنباطي) الذي يعتبر واحدا من أروع من لحن القصائد الغنائية.
وحتى الآن لم يأت من أستطاع منافسة (رياض السنباطي) في تلحين القصائد، وتصوير المعاني تصويرا دقيقا، كما فعل هذا العملاق، وكان من حسن حظه أنه لم يخض تجربة تلحين القصائد بموهبته ومجهوده فقط، بل بحنجرة أسطورية هى حنجرة أم كلثوم.
ثم بأصوات متمكنة ورائعة مثل (ليلى مراد، نور الهدى، سعاد محمد، نازك، وردة، نجاح سلام، فدوى عبيد، عزيزة جلال) وغيرهم.
وتميز وإبداع (رياض السنباطي) لا ينطبق فقط على روعة تلحينه للقصائد، ولكن في طريقة تلحينه لباقي الألوان الموسيقية الأخرى.
والتى كان يحرص فيها أشد الحرص على انتقاء الكلمات التى يلحنها، لهذا لا تجد في أي لحن من ألحانه كلمة سوقية، أو فجة، أو تحمل أكثر من معنى.
السنباطي وأراك عصي الدمع
من الألحان التى تدل على قوة موهبة (رياض السنباطي) لحن قصيدة (أراك عصي الدمع) للشاعر أبو فراس الحمداني، فمعروف أن هذه القصيدة لحنت مرتين قبل (رياض السنباطي).
وفي المرتين غنت أم كلثوم اللحنين، حيث لحن القصيدة لأول مرة (عبده الحامولي) من مقام (البياتي) وسجلتها أم كلثوم على أسطوانة في آواخر العشرينات، وكانت تتألف من ستة أبيات.
ثم أعاد الشيخ (زكريا أحمد) تلحين القصيدة من مقام (الهزام)، ولحنها (رياض السنباطي) للمرة الثالثة من مقام (كرد) بعد إضافة أربعة أبيات إليها في منتصفها، وغنتها أيضا أم كلثوم، لكن لم يحب الجمهور إلا ما غنته أم كلثوم في المرة الثالثة.
ويقول المؤرخ الموسيقي الراحل (محمود كامل): في لحن (أراك عصي اللحن) بالإضافة إلى استخدام (رياض السنباطي) لآلة البيانو في بداية المقدمة الموسيقية، لحن القصيدة كلها فيما عدا بيتين في منتصفها، تلحينا لا يرتبط بإيقاع موسيقي.
وتعتبر هذه مخاطرة من الملحن، في زمن كانت آلات الإيقاع الكثيرة والمتنوعة لها دور كبير في شد انتباه المستمعين، وتحريك مشاعرهم بضروب وإيقاعات صاخبة.
المولد وحب الموسيقى والغناء
بالعودة إلى مولد (رياض السنباطي)، نجد أنه في آخر يوم من أيام شهر نوفمبر عام 1906، وفي بلدة (فارسكور) مديرية دمياط، رزق المغني والملحن محمد السنباطي، بمولود أسماه (محمد رياض) وكانت فرحته به لا تقدر، لأنه جاءه بعد أن رزقه الله بثماني بنات.
ولم يلبث الابن (رياض السنباطي) طويلا في فارسكور، فقد نزح منها مع والده ووالدته وشقيقاته إلى المنصورة، مدينة الفن والجمال، وتفتحت أذناه على غناء والده.
فقد كان يستمع إليه وهو يغني على نغمات عوده أدوار الشيخ (المسلوب) مثل (العفو يا سيد الملاح، وفي مجلس الأنس الهني، والورد في وجنات بهي الجمال) وغيرها.
كما كان يسمع والده يردد أدوار (محمود الخضراوي) مثل (طال الجفا من محبوبي، والحب رباني وعلمني الأدب)، كما كان يسمع أدوار محمد عثمان مثل (في البعد ياما كنت أنوح، وقد ما أحبك زعلان منك)، وأدوار عبده الحامولي مثل (الله يصون دولة حسنك) و(كنت فين، والحب فين).
وألحق (محمد السنباطي) ابنه بكتاب الشيخ (علي مرسي) بميدان الموافي بالمنصورة ليحفظ القرآن الكريم كغيره من أبناء الريف، ولكن (رياض السنباطي) لم يكن مقبلا على العلم والحفظ، إذ كان ذهنه منصرفا إلى شيئ آخر، هو الغناء الذي عاش في أجوائه.
فكان يتخلف عن الذهاب إلى الكتاب، ويتردد على محل لصناعة الآلات الموسيقية يقع قريبا من الكتاب، حيث يقضي النهار كله، وهو يستمع إلى صاحب المحل، وهو يغني على عوده.
فكان (رياض السنباطي) يشعر بسعادة لا حد لها، وكان يفد على المحل بعض هواه الموسيقى والغناء، فكان يستمع إلى عزفهم وغنائهم.
بلبل المنصورة
اكتشف الأب محمد السنباطي، موهبة الابن (رياض)، وهو يغني لحنا من ألحانه وهو (ناح الحمام والقمري على الغصون) فأعجب به، وأخذ يلقنه بعض الموشحات والأدوار.
ثم عهد به إلى أحد مدرسي الموسيقى بالمنصورة ويدعى (محمد شعبان) ليعلمه أصول العزف على آلة العود، ولما اطمأن الوالد إلى أنه يمكن أن يشاركه في لياليه التى كان يحييها بالمنصورة والبلدان المجاورة لها، أخذ يصحبه معه في هذه الليالي.
وكان يغني الأدوار والموشحات التى حفظها من والده، ولقى (رياض السنباطي) كل تشجيع من المستمعين، وبلغ من فرط إعجابهم به أن أطلقوا عليه (بلبل المنصورة)، وظل يعاون والده في سهراته ولياليه عده سنوات، اكتسب خلالها خبرة ومرانا ومعرفة.
سيد درويش والسنباطي
من الأحداث المهمة التى حدثت لـ (رياض السنباطي) في هذه الفترة، وبالتحديد عام 1922 هى زيارة (الشيخ سيد درويش) للمنصورة، حيث سمع (الشيخ سيد)، وهو في مدينة الفن والجمال عن صوت صبي رائع اسمه (رياض السنباطي).
وذهب إليه (الشيخ سيد درويش)، واستمع إليه وهو يغني دورا من أدواره المشهورة وهو (ضيعت مستقبل حياتي) وبهره أداؤه، وحسن استعداده، مما جعله يعرض على والده (محمد السنباطي) أن يتبنى (رياض) فنيا ليصقل موهبته، ويرعاه ويجعل منه فنانا مرموقا.
ولكن الأب اعتذر للشيخ (سيد درويش) عن عدم استطاعته الاستغناء عنه، لأنه أصبح ساعده الأيمن، في إحياءه سهراته ولياليه.
يا مشرق البسمات
في هذه الفترة كان (رياض السنباطي) يتردد على محل حلواني اسمه (راندو بلو) كان ملتقى الأدباء والفنانيين، وفي هذا المحل تعرف (رياض السنباطي) على الشاعر (علي محمود طه).
وفي أحد الأيام وبعد أن توطد علاقتهما طلب (رياض السنباطي) من صديقه (علي محمود طه) قصيدة شعرية يفجر فيها طاقته الفنية فأهداه قصيدة مطلعها يقول: (يا مشرق البسمات أضيئ ظلام حياتي).
وبعد أن انتهى (رياض السنباطي) من تلحينها أسرع إلى (علي محمود طه) ليسمعه نغماتها، فراقته موهبته، وتنبأ له بمستقبل باهر، فكان بذلك (علي محمود طه) أول الشعراء الذين استمعوا إلى ألحان السنباطي.
وكان (رياض السنباطي) أول من لحن وغنى أشعار (علي محمود طه)، وكانت قصيدة (يا مشرق البسمات) باكورة ألحان رياض السنباطي.
القاهرة والعمل في الإذاعة
في عام 1928 انتقل (رياض السنباطي) من المنصورة إلى القاهرة، ونزل ضيفا على عمه (أحمد السنباطي) الذي كان مغنيا وعازفا على العود، وهو والد الملحن وعازف القانون (فريد السنباطي)، وعازف القانون (رياض السنباطي).
وبعد أيام من مجيئه إلى القاهرة تقدم للالتحاق بنادي الموسيقى الشرقي، الذي عرف فيما بعد بمعهد الموسيقى العربية، ونظرا لمهارته في العزف على العود تم اختياره مدرسا لآلة العود.
وأثناء ذلك تعاقدت معه شركة اسطوانات (أوديون) ليكون مسئولا فنيا للشركة وملحنا وعازفا على العود في تخت الشركة، وعهدت إليه بتلحين بعض الأغاني لعدد من مطربيها ومطرباتها من بينهم (نجاة علي، عبدالغني السيد، أحمد عبدالقادر) وغيرهم.
ومع بدايات الإذاعة المصرية التحق بها كعازف منفردا على العود ثم مغنيا وملحنا، وخصته الإذاعة بتلحين الكثير من مختارتها الغنائية لكبار المطربيين.
التأثر بالقصبجي وعبدالوهاب
بدأ الملحن (رياض السنباطي) حياته متأثرا بمدرستين من أهم مدارس التلحين المصري، وهما مدرسة (محمد القصبجي)، ومدرسة (محمد عبد الوهاب)، فمن يتابع ألحان السنباطي الأولى يجد تأثر واضح بالمتطور والمجدد محمد القصبجي، خاصة في أغنية (النوم يداعب عيون حبيبي) التى غنتها أم كلثوم.
ومعظم ألحانه لـ (ليلى مراد) في أفلامها السينمائية الأولى خاصة فيلمي (ليلى)، و(ليلى بنت الفقراء) فمن يسمع ألحان (رياض السنباطي) في هذه الفترة يمكن نسبها إلى القصبجي بكل سهولة.
ونظرا لعمله كعازف على آلة العود مع الموسيقار (محمد عبدالوهاب) خاصة في أغنيات فترة الثلاثينات، نجد تأثر واضح بطريقة (عبدالوهاب) في التنقل بالمقامات بين الكوبليهات.
لكن هذا التأثر ومع نهاية الأربعينات انتهى من حياة (رياض السنباطي)، وأصبح له مدرستة الخاصة التى لها مكانتها في الخلق والإبداع الموسيقي، حيث التزم في أعماله بسمات وأصالة الموسيقى العربية.
وحافظ على خصائص التراث الموسيقي العربي، وأضاف إليه إضافات خلاقة مبتكرة، مما كان له أثره الواضح في وجدان الجماهير في كافة أنحاء الوطن العربي.
وعلى مدى مشواره أثرى المكتبة بروائع غنائية لكبار نجوم الأغنية المصرية والعربية.
جوائز وتكريمات
يعتبر عام 1977 عاما متميزا بالنسبة لـ (رياض السنباطي)، ففيه حصل على الدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون، ومنحته جمعية كتاب ونقاد السينما جائزة الريادة الفنية، وفي نفس العام أيضا نال جائزة اليونسكو العالمية باعتباره موسيقيا مبدعا وخلاقا.
وأثرت أعماله الموسيقية تأثيرا واضحا في شعوب المنطقة، وكان بذلك أحد خمسة في العالم نالوا هذه الجائزة، كما أنه كان الوحيد في العالم العربي الذي نال هذه الجائزة.
كما أقام له معهد الموسيقى العربية الذي تعلم وعلم فيه، حفل تكريم بمناسبة حصوله على جائزة الدكتوراه الفخرية في يوم الأربعاء الموافق 7 ديسمبر، اشترك في الحفل عدد كبير من الفنانيين والشعراء والأدباء من بينهم مرسي جميل عزيز، وعبدالوهاب محمد.
في عام 1980 وقبل رحيله بعام حصل على جائزة الدولة التقديرية، وفي العاشر من سبتمبر يلقي (رياض السنباطي) وجه ربه الكريم بعد أن أسس مدرسة عريقة لها مكانتها بين مدارس الموسيقى العربية الأصيلة ستظل أثارها باقية على مر الأجيال.