روزاليوسف).. أم.. وابن.. وعبد الناصر (10)
بقلم الكاتب والأديب: محمد عبد الواحد
كان لـ (روزاليوسف) بمجلتها و لابنها إحسان عبد القدوس ككاتب دورهما العميق في التمهيد للثورة بسلسلة المقالات النارية، التي غارت بقوة في أدغال وأسرار صفقات الأسلحة الفاسدة في فلسطين، لتزلزل أركان القصر وأتباعه وتشحن الجماهير ضد هذا الفساد الذى طال أبنائهم.
كذلك مقالات (إحسان) التي رسم فيها للشعب تصورا متكاملا حول نظام حكم بديل للنظام الملكى وهو النظام الجمهورى وترغيبهم فيه.. كان إيمان (إحسان) وأمه (روزاليوسف) بالثورة وثوارها مطلقا، حتى أنه رفعهم في إحدى مقالاته إلى مصاف الملائكة.
كان إيمانه بأن هذه الثورة تكمن قوتها فى شعبيتها.. لذلك نادى في مقالاته بأن تكون هذه الشعبية هى أسلوب الحكم الجديد.. وبدأ يترجم أحلامه للعهد الجديد في مقالات متتالية بـ (روزاليوسف).
نادى في بعضها بإلغاء الأحكام العرفية: (إنني عندما الح في طلب الغاء الأحكام العرفية ورفع الرقابة عن الصحف فلأنى أؤمن بأن هذا العهد مؤيد من الشعب تأييدا جارفا، وإن هذا التأييد أقوى من الأحكام العرفية، ومن الرقابة على الصحف)
وفي مقالات أخرى نادى بضرورة وضع دستور مؤقت يتضمن مبادئ الحرية العامة، وضرورة وضع برنامج للعهد الجديد كى يحقق للصالحين الإيمان به، وأن يشاركوا في تنفيذه، وقد شاركته أمه (روزاليوسف) هذه الطلبات الحالمة في خطابها المفتوح إلى جمال عبد الناصر عام 1953.
كتبت فيه (:لا تصدق أن الحرية شيء يباح في وقت ولا يباح في أوقات أخرى.. فإنها الرئة الوحيدة التي يتنفس بها المجتمع ويعيش.. والإنسان لا يتنفس في وقت دون آخر.. إنه يتنفس حين يأكل وحين ينام وحين يحارب أيضا).
وسط وردية كل هذه الأحلام أفاق (إحسان) على الكابوس الأول حينما تم لأول مرة منع مقال له من النشر بأمر مجلس الثورة.. تلاه كابوس آخر حينما فوجئ (إحسان) ذات صباح على توجيه مظاهرة مدبرة لتتهجم على (السنهوري) في مكتبه بمجلس الدولة.
إنشاء مجلس الدولة
و(السنهوري) هو أبو القانون المدنى المصرى.. و هو أول من كافح حتى انتزع من براثن النظام الملكى الموافقة على إنشاء مجلس الدولة، ليكون الحصن للمواطن من تعسف القرارات الإدارية.
وحينما وقف السنهورى إلى جانب الحرية في العهد الجديد للثورة تم تدبير هذه المظاهرة ضده لتتوجه غاضبة إليه في مكتبه، وتقوم بضربه وإهانته على علو قدره القانوني وشيخوخته.
توجه (إحسان) إثر هذا الحادث إلى بيت (السنهوري) مواسيا ليتخذ رجال الثورة – كعادتهم في الإيقاع بين (عبد الناصر) والمخلصين من الناصحين لتقليص الدائرة المحيطة به عليهم و تزايد المنفعة – ليراكموا مزيدا من الحنق في صدر عبد الناصر ضد صديقه القديم (إحسان).
لم يتوقع (إحسان) غضب (عبد الناصر) من موقفه في المطالبة بالحرية، خاصة أن (محمد نجيب) كان قد ألقى منذ فترة بسيطة بيانا للشعب انتصر فيه للأراء التي تنادى بالديمقراطية القائمة على تنافس الأحزاب.
وأيضا تشكيل لجنة لوضع الدستور ليتم عرضه على جمعية تأسيسية أعلن عن قيامها لتحل – كما كان مفترضا – محل مجلس قيادة الثورة، وأن يعود الجيش إلى ثكناته.. رغم تفاؤل الجميع بهذا المسار الجديد.
إلا أن (إحسان) عبر عن مخاوفه: (كنت خائفا من احتمال تحول الثورة عن خطها الديمقراطى الذى ارتضاه الشعب.. وكان أخوف ما أخافه على الثورة وقادتها أن ينجح أعداء الحرية في تزيين فكرة الديكتاتورية العسكرية بكل إغراءاتها للثوار الشباب).
بل وأعقب ذلك بمقال في (روزاليوسف)، دعى فيه مجلس الثورة للتخلى عن أسلوب الجمعيات السرية بعد أن تحولوا إلى مسؤولين أمام الشعب.. كانت صداقة عبد الناصر و(إحسان) قد توثقت أكثر منذ فترة قريبة.
خاصة وأن مجلة (روزاليوسف)، كانت أول صحيفة تنشر اسم (عبد الناصر) وتصفه بأنه الرجل الثانى بعد (محمد نجيب)، وقد ثار (محمد نجيب) لذلك مهددا بإعدام إحسان لأن (نجيب) لم يكن قد قرر أو صرح بعد بأن عبد الناصر هو الرجل الثاني.
يرى (إحسان) الأحلام تتهاوى حلما تلو الآخر.. حتى أصبح الماضى الذى كان يضج بالأحزاب مجرد ذكرى وردية، بل حلما تصعب استعادته مرة أخرى.. خاصة وأن قادة الثورة قد قاموا بحل الأحزاب وقتها.
ليعاود (إحسان) هجومه من جديد على هذه القرارات، فتكون فرصة أمام المتربصين لزيادة حملات الكراهية ضد إحسان، والوقيعة بينه وبين (عبد الناصر) بادعائهم أنه يهدف بأرائه الحرة تصفية الثورة ليعطى لهم الضوء الأخضر للتصرف معه.
اقتياد (إحسان) من بيته
بالفعل وفي فجر 28/4/1954 تم اقتياده من بيته.. أمام زوجته وأولاده وأمه (روزاليوسف) التي سقطت إلى أقرب كرسى لها مصابة بجلطة لازمتها بقية حياتها ليحل إحسان نزيلا على زنزانة 19 بالسجن الحربي.. يثقله حزن عميق بأنه سجين بأمر أصدقاء وشركاء الفكر الثوري.
لكنه كان واثقا بأن أمه راضية عن نهجه.. أما عن (روزاليوسف) والتي تعودت دائما أن تصبر حتى ترد الصفعة بأشد منها، فقد أصدرت قرارا عقب اعتقال (إحسان) بأن لا يكتب في أي من أعداد (روزاليوسف)، بدءا من العدد رقم 1384 وحتى العدد 1366، وهي كل فترة سجن (إحسان) أي حرف عن الثورة أو الثوار.
لتصدر الأعداد تباعا، وكأن مصر لم تشهد ثورة.. أو كان الثورة كانت مجرد حدث مضى وانتهى و لا يستحق ذكره في (روزاليوسف).. أحس قادة الثورة بالحرج لموقف (روز ليوسف) وتأثيرها في الشارع المصرى فأرسل عبد الناصر إليها أن تذهب للقائه في قيادة الثورة ليأتيه ردها:
(إذا كان يطلبنى كحاكم فروزاليوسف لا تسعى إلى الحكام.. لا عن رغبة ولا عن رهبة.. وإن كان يطلبنى لنتحدث كأصدقاء فعلى أصغر الأصدقاء سنا أن يسعى إلى أكبرهم).
يعاود عبد الناصر محاولاته لرأب الصدع فيرسل لها الرقيب العسكرى على الصحافة ثم (محمد حسنين هيكل) ليتفاوضا معها على الشروط لرفع الحظر الذى فرضته على أخبار الثورة في مجلتها، لكنها أصرت على رفضها قائلة: (آسفة.. لن أكتب حرفا واحدا عنكم حتى لو أعدمتم ولدي).
عبد الناصر يتصل بإحسان
ليتفاجأ (إحسان) بعد ذلك بفتح أبواب زنزانته مع خبر الإفراج عنه.. وما إن وصل بيته حتى دق جرس التليفون، ليكون أول صوت يسمعه هو صوت (عبد الناصر) ضاحكا: هيه.. اتربيت ولا لسه يا (إحسان)؟.. تعالى افطر معايا بكره وماتتأخرش .. أنا منتظرك).
بالفعل ذهب (إحسان) للإفطار مع (عبد الناصر) عدة مرات بناءا على تكراره الدعوة، مصرحا له أنه يحاول معالجته نفسيا مما ألم به.. يكتب (إحسان) فيما بعد أنه لم يكن في حاجه إلى علاج نفسى.. فما حدث له في السجن هو أن تغيرت آراءه ومواقفه من الطبقة الحاكمة للثورة.
وانه أصبح مؤمنا بأنه يتعامل مع حاكم لا مع ثورة، وهو الإحساس الذى لازمه فيما بعد..
آواخر عام 1954 فوجئ (إحسان) بزيارة لزوار الفجر ليساق إلى السجن الحربى مرة أخرى مواجها في مكتب قائد السجن تحقيقات حول نفس التهمة (محاولة قلب نظام الحكم).. أن شريكه قد اعترف.
كان هذا الشريك هو سائق في مجلة (روزاليوسف) تم الضغط عليه ليعترف بأن (إحسان) يعطيه منشورات لتوزيعها.. بل وسلاح أيضا.
أثناء التحقيق دق جرس التليفون ليصيب المحقق الارتباك حينما سمع صوت (عبد الناصر) يطلب الحديث الى إحسان فيعتذر (عبد الناصر) له عن هذا الخطأ، مؤكدا انه هذه المرة مسؤولية (عبد الحكيم عامر)، لأن البوليس الحربى يتبعه.
ليخرج (إحسان) بالفعل مرة أخرى إلى الشارع.. يسير بخطى نازفة لجرح لم يندمل بقية حياته.