رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

في الذكرى الـ 48 لرحيل فريد الأطرش .. الحب الأول ألهمه أجمل أغنيات البدايات

كتب : أحمد السماحي

أمس كنا نحيي الذكرى الـ 48 لرحيل لحن الخلود الموسيقار فريد الأطرش الذي كان ربيع الأغنية الدائم، ونبض الشجن والحنين، وصوت الحزن والفرح، كان فارسا نبيلا شهما، طيب القلب، محب للناس والخير، مرح، ابن بلد يعشق الفكاهة ويخلقها، ويجسد الشهامة والتسامح والكرم، ولأنه كان أصيلا تجده وفيا، يضايقه أن يحرج أحدا أو يمس مشاعره، ولأنه أمير كان نبيلا حساسا إزاء الغير إلى أبعد حد، كان قلب فريد هو الطيبة والشجاعة، وكان فى حياتنا هو الفارس طيب القلب، ولم تكن طيبته ادعاء، ولا شجاعته اكتسابا، بل ولد بهما.

تعلمنا منه الحب يوما فى (بنادي عليك، اول همسة، الربيع،عش أنت، أضنيتني بالهجر)، سمعنا أغنياته ونحن نسبح فى أثواب براءتنا وصور لنا فيها مثالية الحب وقدسية العطاء ونقاء السريرة، وكان صادقا فى كل ما غنى، وحلق بنا فوق آلامنا وأحزاننا، يومها كنا صغارا نسبح بأحلامنا عبر آفاق القيم النبيلة التى كثيرا ما طاف بنا فى أرجائها، عرفناه فيها نبضا صادقا، وإحساسا مرهفا. 

عرفناه نبضا صادقا، وإحساسا مرهفا

بعد استقرار فريد الأطرش فى القاهرة مع أمه وشقيقته آمال، وشقيقه فؤاد، عمل مطربنا فى أكثر من مهنة، وأصبح يومه وليله مكتظا بالأعمال والنشاط فهو في الصباح طالب في مدرسة (البطركية للروم)، وبعد الظهرطالب أيضا في (نادى الموسيقى الشرقي)، وبينهما موظف فى محل (بلاتشي)، وبالليل مطرب وعازف عود في كازينو بديعة، ويقول فريد عن هذه المرحلة فى (مذكراته الشخصية ): (كنت سعيدا رغم كل التعب الذي كنت أبذله في النهار فإحساسي أنني أعيل أسرة كان يمنحني قسطا من الرضى، وشعوري أنني أتعلم الموسيقى كان يمدني بالأمل والتفاؤل والموسيقى).

 وسط كل هذا الكفاح المضني والتعب الشديد، طرق الحب بابه لأول مرة ولم يستطع مقاومته، كان في سن السادسة عشر، وكانت الحبيبة بنت الجيران تسكن معه في شارع (إدريس راغب) بغمرة، كانت تسكن بيتا أشبه بالفيلا، وقد بدأت قصتهما بالتأمل الطويل الصامت، وأمضى شهرا يتمنى أن تجود عليه بابتسامة أو تتعطف بلفتة، فلما أضاءت الابتسامة حياته أنعشت خياله وسرقت النوم من عينيه وجعلته يمشي كأنه يطير، ويطل من النافذة عليها وكأنه يطل على الجنة، كان يجد في ابتسامتها الراحة التى ينشدها، وتهون التعب الذى يعانيه.

كان يقضي النهار بين المشاغل الكثيرة وهو يستحث الساعات أن تمضي وتسرع الخطى حتى يرى محبوبته فهى تنتظره فى نافذة حجرتها فيملأ منها عينيه وقلبه، كانت تجلس أمامه ساعة وهى لاتمل وضوء المصباح في غرفتها لا يشي بيقظتها لأهلها، وأثناء ذلك كان يسمعها أحدث ألحانه، وتنسكب آنات الأوتار في أذنيها فلا تطفئ مصباحها قبل أن يسود الظلام غرفته، كان يراها كل ليلة فإذا كان الصباح فيصحو مبكرا ويشبع من محياها الوضاء وهى تحتضن حقيبة الكتب بين يديها وفوق صدرها الناهد، وتندفع من باب الفيلا إلى عربة المدرسة وعلى شفتيها ابتسامة الصباح وفي عينيها نظرة الحب.

كان فارسا نبيلا شهما، طيب القلب، محب للناس والخير

وبدأ يجمع عنها معلومات من الشارع ومن المترددين على والدته وزميلات شقيقته (آمال)، فعرف إنها من أسرة صعيدية تتمتع بالثراء الفاحش وإنها مسيحية، ولم تمنعه كل هذه الفوارق الاجتماعية والدينية من حبها، وبعد طول تفكير اهتدى لفكرة أن يرسل لها خطاب، وبالفعل تمكن عن طريق زميلة لشقيقته (آمال) من إرسال خطاب لها.

 وظل عدة أيام وهو مرتجف الأوصال خشية أن يكون الخطاب قد وقع فى يد الأسرة، ولم يطمئن قلبه إلا عندما تلقى خطابا منها تبثه فيه عبارات الحب البريئة، وظلوا فترة يتبادلون الرسائل، كانت هذه الفترة أسعد فترات حياته لكن أيام السعادة فى قصة حبه لم تدم طويلا فقد أحست أم الفتاة بأن ثمة ما يشغل ابنتها وبدأت تراقب خطواتها واستطاعت أن تضبطها أكثر من مرة وهى تجلس فى الشرفة وتبتسم لفريد، وعنفتها الأم وأغلقت النافذة بالمسامير، وكانت تنزل معها يوميا تصلها لباب السيارة، ولم يبق للمحب الشاب بعد هذا الحصار غير اللحظات التى تعبر فيها الشارع إلى عربة السيارات.

وفكر أن يتقدم للزواج منها، وطرح الفكرة على بعض أصدقائه فقالوا له: (تعلم إنها صعيدية ومسيحية وغنية جدا وتتقدم إليها أكيد أنت مجنون!)، وأثناء ذلك طلب من صديقه الشاعر (يوسف بدروس) أن يكتب له أغنية مستمدة من قصته فكتب له أغنية (بحب من غير أمل)، كما غني أغنية (يا ريتني طيرلأطير حواليك)، وتعتبر هاتين الأغنيتين هما أول ما غنى في مشواره الفني الاحترافي، وكان يغنيهما بإحساس عاشق محترق بنار اليأس، وحققتا الأغنيتين نجاحا كبيرا في الإذاعة الأهلية.

قدم أروع أغانية في فترة حبه لجارته

وذات يوم وبعد عودته من (كازينو بديعة) لم يجد طيف حبيبته النوراني وراء زجاج النافذة ولم يستقبله ضوؤها الخافت الذى كان يشبه كلمة السر بينهما ولم ينم ليلتها، وفي الصباح الباكر لم تقف عربة المدرسة أمام الفيلا، وسأل فريد والدته عن جيرانهم فقالت له لقد رحلوا، وقبل أن تستكمل كلامها فوجئت بسقوطه مغشيا عليه، وبعد أن تم إفاقته سألها بصوت حزين باكي: أين رحلوا؟! قالت بدهشة: وهل لنا أن نسأل كل راحل إلى أين يرحل؟!

 وسرح فريد بذهنه مع ذكرياته مع حبيبته ولم يعد يسمع نصف عبارات والدته، وشعر أنه يريد أن يبكي فدخل حجرته وانهار في البكاء، وبعد أسابيع طويلة من فراق حبيبته، طلب من صديقه الشاعر (يوسف بدروس) أن يكتب له أغنيات تعبر عن شقائه في الحب، فكتب له (عمري ما حقدر أنساكي)، و(أفوت عليكي بعد نص الليل)، و(رجعت لك يا حبيبتي بعد الفراق)، وكانت كل هذه الأغنيات تشق طريقها إلى الأسماع، وتحقق نجاحا كبيرا، وأقبلت عليه شركة (كولومبيا) للاسطوانات بعد ترديد الجمهور لأغنياته، ووقعت معه عقدا بعشرة جنية للاسطوانة الواحدة.

قرر فريد أ ن يطوي صفحة الحب الأول والتفرغ لفنه وعمله، فقد كان إلى جانب عمله كل ليلة بكازينو بديعة يحرص على أداء واجباته المدرسية، أملا فى الحصول على الشهادة الابتدائية، كما استمر في دراسته فى نادي الموسيقى الشرقي، إلى جانب عمله أيضا فى محلات بلاتشي، وانتهت أحلى قصة حب كانت وراء أروع أغنياته العاطفية الأولى.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.