رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محيي إسماعيل .. فيلسوف الضحك الذي يحجب معاناته خلف نظارة سوداء !

يخفي معاناته وإهماله وعدم تقديره خلف نظارة سوداء

كتب : محمد حبوشة

شاهدت حفل افتتاح مهرجان الأسكندرية السينمائي في دورته الحالية، وحزنت جدا عندما قدم الفنان الكبير والقدير (محيي إسماعيل) النجم محمود حميدة للصعود واستلام الجائزة، وتحدث الفنان محمود حميدة الذي تحمل الدورة الثامنة والثلاثون اسمه قائلا: أشكر الفنان محيى إسماعيل الذي شرفني بتقديمه لي بهذه الطريقة، وأنا أحبه جدا، ولا تكفي أن تسمى دورة واحدة باسمه بل يجب أن تسمى باسمه مهرجانات كثيرة، ولعل ما قاله (حميدة) في حق (محيي) حقيقة دامغة عن فنان مشهود له بالكفاءة والتميز، لكن ظني أن هذا لايكفي، خاصة أن (محيي إسماعيل) رسخ اسمه في قائمة النسيان من كل مهرجانات السينما التي تقام في مصر على مدار عشرات السنين الماضية.

كرم المهرجان كلا من المخرج محمد عبدالعزيز ويمنحه وسام البحر المتوسط، دنيا سمير غانم، سعيد حامد، وجيه الليثي، إمام عمر، كما كرم كلًا من الممثلة ماريان بورجو (فرنسا) – الممثلة والمخرجة نورا أرماني (مصر، فرنسا، أرمينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، واحتفي المهرجان بعدد من الأسماء الفنية، ومنهم: إسماعيل ياسين، المخرج فطين عبدالوهاب، الفنان سمير غانم، الفنانة دلال عبدالعزيز، الفنان سمير صبري، المونتير سعيد الشيخ، الموسيقار علي إسماعيل،  مديرة التصوير أبية فريد.

أصبح مادة إعلامية جاذبة بسبب أحاديثه المثيرة للجدل

والسؤال: لماذا لم تفكر إدارة المهرجان في تكريم (محيي إسماعيل) والاحتفاء به كقامة سينمائية ستظل محفورة في ذاكرة السينما المصرية بحروف من نور، خاصة أنه رائد (السيكودراما)، هذا النوع الصعب من الأداء الذي برع فيه (إسماعيل) ليس على المستوى المصري أو العربي، بل على المستوى الدولي؟، ومن ثم كان يستحق التكريم عن مجمل أعماله الرائعة، أم أننا لا نأخذه على محمل الجد ووضعه في خانة المجانين، حيث يبوح بكلمات أظنها تعبر عن قول المتنبي:

لا تحسبوا رقصي بينكم طربا

فالطير يرقص مذبوحا من الألم

يا ويح أهلي أبلى بين أعينهم

على الفراش ولا يدرون ما دائي

تموت النفوس بأوصابها

ولم تدر عوادها ما بها

وما أنصفت مهجة تشتكي

آذاها إلى غير أحبابها

****

سيل الكآبة موصول بأوردتي

وأنهر الحزن تجري في شراييني

قد صرت كتلة آلام تمزقني

في مصلب الجرح بين الحين والحين

لا تحسبوا أن هذا الشعر يفهمني

بل صار ينقل رسما دون تلوين

فهل تجمع في روحي وفي جسدي

آلام عيسى ويعقوب وذا النون؟

***

فلو كان سهما واحدا لاتقيته

ولكنه سهم وثان وثالث

رماني الدهر بالأرزاء حتى

فؤادي في غشاء من نبال

فكنت اذا أصابتني سهام

تكسرت النصال على النصال

****

لان أمسيت في ثوبي عديم

لقد بلي على حر كريم

فلا يغررك أن أبصرت حالا

مغيرة على الحال القديم

فلي نفس ستتلف أو سترقى

لعمرك بي إلى أمر جسيم

****

لولا الحوادث قد حططن رحالا

بحماي كنت الشاعر المفضالا

وسموت في طلب الكمال مبرزا

وتركت خلفي في الحضيض رجالا

في مهرجان الأسكندية السينمائي غير مكرما كالعادة

ولو تناولنا تلك الأبيات بقدر من التأمل لوجدنا كل كلمة تنطبق على الفنان الموهوب حقا (محيي إسماعيل) الذي خاصمه المخرجون وشركات الإنتاج، ومن ثم المهرجانات – أكثر من 14 مهرجان تقام في مصر سنويا – ولنتأمل مليا ماقاله مازحا عندما في أثناء تقديمه للفنان الكبير والقدير محمود حميدة: فخلال التكريم، اقتحم الفنان محيي إسماعيل المسرح بشكل فاجأ الحضور، قائلا: (أنا القيصر، وليه محمود حميدة مش محيي إسماعيل؟)، وقام بإلقاء كلمة خلال تكريم الفنان محمود حميدة بطرقة فكاهية قائلا: (أنا القيصر، امنع الكلام أنت وهو، اشمعنى دورة محمود حميدة ليه مش محيي إسماعيل، يعني أنا صاحي من الفجر ومفصل البدلة مخصوص وجاي في أوبر ودافع فلوسه، ولفيت إسكندرية عشان ألاقي فرشة للجزمة وملقتش، وأضاف: (بجد ليه محمود حميدة، أنا هقولكوا عشان بيحب السينما وبيلعب بلياردو ودارس ومثقف وعمل مجلة، ومازح (حميدة) قائلا: (محمود حميدة طول بعرض ماشي يهز الأرض).

ورغم كلامه الذي قاله بطريقة فكاهية إلا أنني أدركت الفور حجم المعاناة التي يعيشها هذا الفنان الذي كان يستحق الاهتمام أكثر بإسناد أدوار كثيرة يجيدها ببراعة في لوحة السينما والدراما التلفزيونية التي لم تقترب منه أبدا من سنوات طويلة رغم دعاوى (الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية) بأنها تهتم بكبار النجوم، فلم تلفت إلى فنان بحجم محيي إسماعيل سواء على مستوى كبر السن ونضج التجربة أو حتى على سبيل (الطبطة) على كبار فنانينا كنوع من الحنو والاحترام لتجاربهم في إثراء الشاشتين الكبيرة والصغيرة.

أشعر بمعاناة التجاهل واللامبالاة في حق الفنان (محيي إسماعيل) الذي لا يمزح بكلمات ربما تجلب نوعا من الفكاهة الحاضرة لديه والتي لم تكتشف حتى الآن في أدوار كوميدية تخرج من جعبته الكثير والكثير، بل هى نوع من فلسفة المواقف السلبية تجاهه وهو وحده الذي يتألم في شجاعة نادرة ولا يفصح عما يكنه في صدره من شحنات الغضب والاستياء والإهمال الذي يلقاه يوميا دون الانتباه لظروفه الحياتية القاسية التي يغطيها دوما بارتداء نظارة شمسية سوداء تحجب عنا دموعه الغالية.

أعظم أدواره على الإطلاق في فيلم (الإخوة الأعداء)

في مايو 2018 كتبت مقالا في (اليوم السابع) قلت فيه: مصحوبا بالصدمة الكبرى، والحزن وخيبة الأمل والرجاء، أكتب عن الفنان القدير (محيى إسماعيل)، الذى انهمر فى البكاء على الهواء فى أحد البرامج التليفزيونية قبل يومين، بفيض من مشاعر صادقة، وذلك أثناء مشاهدته جزءًا من فيلم (الأخوة الأعداء) الذى قام ببطولته مع كل من الفنانين نور الشريف وحسين فهمى، وقال (محيى) فى حواره التليفزيونى: (أنا بتأثر لما بشوف المشاهد دى، أنا العالم كله بيكرمنى وبيعرفنى وبيقدرنى، لكن هنا أنا زعلان، لأن بلدى دى بلد المعرفة والحضارة والفن)، وتابع: (الفن أمن قومى والرئيس لازم يتدخل وينقذ مصر من الفن الهابط ده، دى قمة الوطنية، وأرجوكوا متشيلوش الكلام ده).

وقد جاء حواره هذا في ذلك الوقت بنبرة حزينة على غير عادته، بل تعبر تلك النبرة عن حالة إحباط انتابته خلال الأيام القليلة الماضية على ما يبدو، جراء التجاهل التام لموهبته التى يمكن أن توظف دراميا بشكل يليق بها، بحيث تحفظ له ماء الوجه فى ظل صناعة الدراما الثقيلة هذه الأيام، لقد شعرت بالأسى والحزن الشديدين جراء قلة حيلة هذا الفنان الفيلسوف، الذى كان يصعب أن تحاوره فى لقاء تليفزيونى على الهواء مباشرة، فقد كانت تلك مخاطرة كبيرة لا يقدر على خوضها سوى القليلين من زملائه الفنانين الذين يعرفونه عن قرب، وبعض الإعلاميين المشهورين، ممن لهم حنكة وخبرة كبيرة فى دراسة شخصيته المركبة إلى حد التعقيد، فهو شخص يصعب السيطرة عليه، كما يصعب التنبؤ بردود أفعاله على الأسئلة الموجهة له، ولأنه درس الفلسفة فى بداية حياته فقد أكسبته ثقافة إلى حد عميق، لذا يرى أن الحياة مجرد (عبث)، ولعل ذلك المعتقد الراسخ فى وجدانه تجده واضحا عليه فى كل مقابلاته الإعلامية والصحفية على حد سواء.

واليوم أعيد على مسامع المخرجين وشركات الإنتاج، ومن قبلهم مهرجانات السينما التي وضعته في (خانة النسيان) فلم يكرم مرة واحدة بعد هذا العمر الطويل من الأداء فائق الجودة، ياسادة: إنه الفنان من الوزن الثقيل نفسه الذى كان إلى وقت قريب يتحدث دوما بلا مناسبة، ويأخذك فى حوار شيق وعميق يمينا ويسارا فتظن أنه ابتعد عن الإجابة عن سؤالك السابق، لكنك فى الواقع ستجده يلقى إجاباته من بين السطور فى صورة رموز وإشارات ذات دلالات خاصة فتبدو أمامك مجرد طلاسم لا تحل، ليبقى فى النهاية تركيبة إنسانية غريبة يصعب فهمها فنيا ونفسيا واجتماعيا أيضا، فهو صريح جرىء لا يخشى من أحد، لديه حضور طاغ واثق من نفسه إلى حد اتهامه بالغرور، مؤمن بأنه فنان خسره من لم يتعامل معه.

عساف ياجوري في فيلم (الرصاصة لاتزال في جيبي)

وربما لكل تلك الأسباب وغيرها لم يلق رواجا إعلاميا وفنيا فى مصر بالقدر الذى يليق بموهبته وذكائه الحاد الذى يفضى إلى الجنون، كما يظن بعضا ممن لا يدركون حقيقته الفطرية البسيطة، ومع ذلك فقد وجد التقدير الكامل فى أوروبا وأمريكا، حتى أن جامعة (كونكورديا) الأمريكية أطلقت عليه لقب (رائد السيكودراما) على مستوى العالم.

ألم يكن من الأجدى أن يتم تكريمه في مهرجان الأسكندرية السينمائي في دورته الـ (38)، والتي توافق الذكرى (49) لحرب أكتوبر المجيدة حيث شارك فى أول فيلم عن بطولات تلك الحرب تحت عنوان (الرصاصة لا تزال فى جيبى)، عام 1974، جسد فيه (محى إسماعيل) شخصية الضابط الإسرائيلى (عساف ياجورى)، وأذكر أنه أثناء حضوره العرض الخاص للفيلم، أخبره مدير الصالة أنه يبدو مستفزا جدا فى هذا الدور، وذلك لأن هناك مشهدا دمويا يقتل فيه (ياجوري) عددا من المصريين بالرصاص، ومن ثم فإنه سيفتح له بابا جانبيا للهروب فور انتهاء العرض، خوفا من رد فعل الجمهور الذى استنكر أفعاله فى أثناء تأدية دوره، وتفاديا لأن يضربه الجمهور قرر الهروب من الباب الجانبى قبل نهاية العرض.

جدير بالذكر أنه ابتعد لسنوات عن التمثيل برغبته أحيانا وعلى عكس هواه فى أحايين كثيرة، إلا أنه لم ينساه الجمهور، ولم ينس أدواره النفسية المعقدة التى جعلت البعض يتخيل أنه مصاب بمرض عقلى، لكن ما أن تتحدث معه حتى تدرك أنك أمام (حالة فنية) وإنسانية مختلفة، فهو إنسان لطيف وخفيف الظل إلى أقصى حد، وقادر على تفهم الآخر والتعامل معه كما لمست ذلك عن قرب، وهو فنان بارع ظلمته السينما والتليفزيون والقائمون عليهما، فيكاد يكون الممثل الوحيد على مستوى العالم الذى نجح فى تجسيد (عقد البشر) عبر 18 فيلما سينمائيا منهم: (الأخوة الأعداء، دموع الشيطان، وراء الشمس، الغجر) لذا منحته جامعة (كونكورديا) الأمريكية لقب (رائد السيكودراما) أى الدراما النفسية.

وهو الذى يقول عن نفسه: لقد ظللت 12 عاما بعيدا عن الفن باختيارى اعتذرت خلالها عن العديد من الأعمال التى عرضت على لأنها أعمال ليس لها معنى فالفيلم الحقيقى فى نظرى هو الذى يعيش بعد موتى، وهنا أسأل القائمين على السينما والتليفزيون عن أسباب ذلك التعتيم التام على أعمال هذا الفنان القدير، والذى يحوى رصيده (25) فيلما ومسرحيتين وعشر مسلسلات لا نرى أى منها على شاشة التليفزيون المصرى، وقد لا يعرف الكثيرون أنه قام عام 2007 ببطولة مسلسل (المخبر الخاص) من إنتاج مدينة الإنتاج الإعلامى، ووسط عشرات المسلسلات التى عرضت فى نفس السنة لم يعرض (المخبر الخاص) على التليفزيون المصرى، رغم أن العمل محترم وجيد، وأرهقه العمل فيه بعد التعديلات التى تم إدخالها عليه ليتحول البطل فيه إلى (رمز) قومى فريد.

فضلا عن أن هذا وذاك فكل دور قام به فى حياته الفنية ساهم فيه بروحه ودمه وأعصابه، لذلك فهو يحب أدواره كلها، والجمهور يعرف أدواره ويحفظها عن ظهر قلب، ويحبها، ويكفى أنه قدم طوال 30 عاما شخصيات مركبة مستخلصة من تعقيدات البشر حتى أصبح صاحب مدرسة خاصة به، وهى (السيكودراما).

كرم من أعرق الجامعات الأمريكية ولم يلقى تكريما من مصر

صحيح أن (محيي إسماعيل) حصل نحو 12 جائزة حصل طوال مشواره الفنى الطويل، فمنذ بدايته فى الفيلم الإيطالى (أبطال المجد) مع النجم (أحمد رمزى) والمخرج (روبرتو منتيرو) وموهبته تفرض نفسها، ويكفيه أنه نال جائزة من (مهرجان طشقند) فى روسيا عن فيلم (الأخوة الأعداء) وجائزة من أمريكا كأفضل ممثل سيكودراما، وجائزة جمعية نقاد السينما، وكل تلك الجوائز نالها ولم يكن قد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره، فهو على حد تعبيره لا يهتم كثيرا بالزمن لأنه يطوعه حسب مصلحته، ولذلك يقضى وقت فراغه فى دراسة اليوجا والفلسفة التى تمكنه من التعامل مع أى شخص ولو كان الشيطان نفس،  لكن ألا يستحق التكريم من أي من مهرجات السينما في بلده التي يكن لها منتهى الحب والتقدير ويراه صاحبة حضارة أشرقت من فجر التاريخ وحتى اليوم.

يبقى أن أقول إنه منذ ثلاثين عاما وهو يحمل بداخله جذور (7) روايات يتمنى أن يجد الوقت لكتابتهم، ومع حالة الركود التى أصابت السينما بدأ بالفعل فى كتابتها وظل نحو (7) سنوات يكتب هذه الروايات، وقدم أولها (المخبول) فى عام 2001 ، والتى تعد أول رواية تطبع وتنشر لممثل مصرى، وشرح فيها كل أحداث ثورة 25 يناير التى اندلعت فى 2011، وتم ترجمتها بأكثر من لغة كما عرضت عليه دار نشر أمريكية طباعة ونشر روايته الثانية، لذا فهو عضو اتحاد كتاب مصر، وهو واسع الاطلاع حيث قرأ ما يزيد على 20 ألف كتاب.

وأخيرا أقول كما قلت من قبل في مقالي بـ (اليوم السابع) قبل مايزيد على 4 سنوات: دموعك غالية على محبيك، فهل من يد حانية تنتشل هذا الفنان صاحب الموهبة المتوقدة من حالة الإحباط التى تنتابه فى خريف العمر؟.. هذا ما أتمناه فى الأيام المقبلة!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.