رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

ياسر العظمة .. فيلسوف الكوميديا الغائب عن المشهد

بقلم : محمد حبوشة

في كتابه (الضحك والنسيان) يقول ميلان كونديرا (أن تضحك يعني أن تعيش الحياة بعمق)، وسواء حلل الإنسان ظاهرة الضحك أم لا، فكلنا في نهاية الأمر نضحك على أشياء كثيرة، سواء للمتعة الحسية التي يولدها الضحك فينا، أو لنحارب به الحزن والاكتئاب، أو لنظهر سعادتنا في مواجهة الحياة والناس، كما أن الضحك هو اللغة الأكثر وضوحا وتطورا والتي يعبر بها الجسد ليس فقط عن الفرح، ولكن يمكننا أن نلاحظ أن الإنسان يضحك في حالات متباينة: كالتوتر، الخوف، التهكم، الحزن، الغضب، الخجل، الصدمة، السخرية، فهو يضحك في كل هذه الأحوال ليواجه المواقف المتناقضة بذات اللغة: الضحك!، ناهيك عن تلك (الضحكة الاجتماعية) التي لا تعبر بالضرورة عن أي إحساس لا بالمتعة ولا بالفكاهة!

ياسر العظمة .. فيلسوف الكوميديا الغائب عن المشهد
يعلن استياءه من الدراما والإعلام

هكذا آمن ضيفنا في (بروفايل) هذا الأسبوع الفنان السوري الكبير والقدير (ياسر العظمة) بفلسفة الضحك ومنها على سبيل الحصر (الضحكة الاجتماعية)، تلك التي أضحكتنا أحيانا وأبكتنا أحيانا أخرى من فرط أكثر المواقف سخرية من الواقع الذي نعيشه، فهو يرى كما يرى (جوناثان ميلر) أن الفكاهة هى تسلية مجانية للعقل تريحنا من سلسلة الأفكار الروتينية، وتخفف من استبدادها بنا، وتمنعنا من أن نصبح أسرى لها، ولقد ذهب في (مراياه) إلى ما ذهب إليه كثير من الكتاب والصحفيين في كتاباتهم عن الضحك باعتباره مقابلا للنسيان، كما فعل (ميلان كونديرا)، فالإنسان يضحك أحيانا ليتجاوز مآسيه الشخصية أو العامة، وليس بالضرورة لأنه سعيد أو مستمتع.

ياسر العظمة .. فيلسوف الكوميديا الغائب عن المشهد
ترسيم حدود

تماما كما فعل (ياسر العظمة) في مراياه الضاحكة بسخرية حادة في كثير من حلقاته التي تقوم بعمل إسقاط على الواقع السوري حتى تخاله يسير على درب الفيلسوف الفرنسي (برجسون)، صاحب أهم رأي من الآراء المعدودة في (فلسفة الضحك)، والذي يشير إلى أن الأشياء التي توضع في الذهن موضع المتناقضات من دأبها أن يذكر بعضها ببعض؛ فالبكاء من ألزم الأشياء لفجيعة الموت، والضحك يناقض البكاء على جميع الألسنة، وإن لم يكونا في الواقع نقيضين أو طرفين متقابلين، فالحزن نقيض السرور ولكنه ليس بنقيض الضحك؛ وقد يحزن الحيوان الأعجم ولكنه لا يضحك أبداً ولا يستطيع أن يضحك، إذ الضحك خلة إنسانية ملازمة للعقل والضمير، ويقال: إن الإنسان حيوان ضاحك، كما يقال: إن الإنسان حيوان ناطق: كلاهما وصف لا ينفصل عن التمييز الإنساني ولا يكون لغير الإنسان.

ولقد نبه (ياسر العظمة) طوال رحلته مع المرايا إلى أنه ينبغي أن ننبه إلى أن قهقهة القرد ليست من الضحك إلا في الصوت، وأن الببغاء قد تحاكي الإنسان الضاحك كما تحاكي الإنسان المتكلم، ولكنها جميعها أصداء وأصوات ليس لها من التمييز المنطقي نصيب، ولا غرابة في أن يعرف الإنسان بالضحك كما يعرف بالمنطق والتمييز، لأن المنطق هو الذي يجعلنا نضحك، وكل عمل مضحك هو في حقيقته منطق ناقص أو قضية يختل فيها القياس والترتيب، ومن ثم يضحكنا الأطفال لأنهم لا يحسنون القياس، ولكنهم يركبون القضايا المنطقية تركيباً في نقص واختلال، والكبار الذين يضحكوننا إنما يصنعون مثل هذا: يقيسون ويخطئون القياس، ويكتفون بالمحاكاة ولا يتصرفون ولو أننا نظرنا إلى كبار الممثلين المضحكين لوجدنا أنهم يتعمدون خطأ على هذا المنوال، ويتبعون أسلوباً في وضع الأمور في غير مواضعها يتنوع ويختلف على حسب أمزجتهم وملكاتهم ولكنه يلتقي في خلة واحدة وهي اختلال القياس.

ياسر العظمة .. فيلسوف الكوميديا الغائب عن المشهد
لم يمشي (ياسر العظمة) على نهج (لوريل وهاردي)

لم يمشي (ياسر العظمة) على نهج (لوريل وهاردي) اللذين أُدخلا السجن في إحدى رواياتهما ثم استطاعا الإفلات منه ونعما بالسكر والنزهة وهما مفلتان، حتى طاردهما الحراس في الطريق هربا إلى باب السجن يلتمسان الخلاص، بل مشى على نهج (شارلي شابلن) الذي قرأ فلسفة الضحك للفيلسوف (برجسون) والذي يقول مذهبه: إن سبب الضحك هو تصرف الإنسان كما تتصرف الآلة، بغير تمييز بين المتفقات والمختلفات، وبين ما يقتضي التغيير وما ليس يقتضيه، وهذا بالطبع يفضي إلى أن الضحك إنما هو سلاح الإنسانية للمحافظة على المرتبة التي وصلت إليها فوق الجماد وفوق الحيوان، ومن هنا استحال على الحيوان أن يضحك لأنه لم يصل إلى هذه المرتبة وليس عنده من التمييز ما تستدعيه.

والإنسان عند (ياسر العظمة) لا يضحك غالبا إلا إذا كان بصدد مشهد بشري كما هو راسخ في عقل (برجسون)، إن الجماد أو الحيوان لا يصبح مضحكا إلا بقد رما يشابه الإنسان أو يحاكيه، ولأن الأمم والشعوب تختلف من الناحية الفكاهية، فمنها ما تجد الفكاهة تحتل مكانا بارزا في حياتها العامة ومنها ما تجد حياتها الفنية والأدبية تلمع فيها النكتة أكثر مما تلمع في حياتها العامة، ومنها ما تجد حياتها اليومية والأدبية والفنية على السواء، ومهما يكن من شيء فإن الكوميديا في ثوبها السوري عند (العظمة) هى  سلاح تنال به الأمة من جلاديها أو مستعمريها إذا ما عجزت عن محاربتهم بسلاح الحديد والنار، وهى إلى ذلك صمام الأمن للشعب ينفس به عن مكنونات صدره حتى لا يصاب ضميره الجمعي بالانفجار، فلا يقوى على التماسك والثبات إذا ما حزبه الأمر العظيم!.

ومن هنا جاء (ياسر العظمة) كأحد علامات الدراما الكوميدية السورية لأنه ليس ممثلاً عادياً، بل لأنه يعتبر الأب الروحي للكثير من النجوم السوريين الذين ساهم بشكل كبير في إظهار نجوميتهم، وخطوا خطواتهم الأولى في عالم التمثيل في مدرسته الشهيرة (مرايا)، وذلك باعتباره صاحب أهم وأطول مشروع كوميدي عرضته الساحة الدرامية العربية، وقائد أوركسترا الفن الدرامي الذي أخذ على عاتقه حمل مشكلات المجتمع العربي وخصوصاً السوري برؤية ناقدة ولاذعة، فقد شكلت مع الأيام ملمحاً من ملامح مشروعه الفني (مرايا) هو ياسر العظمة وهى (مرايا) والفصل بينهما مستحيل فلا مرايا دون ياسر العظمة.

ياسر العظمة .. فيلسوف الكوميديا الغائب عن المشهد
أوائل المرايا

ينحدر الممثل والكاتب والمؤلف والمنتجال سوري، (ياسر محمد العظمة) من عائلة (العظمة) الدمشقية العريقة، وقد ولد بالشام في 16 مايو عام 1942، وتنقل في تعليمه الأولى بين عدة مدارس في (دمشق وجبلة) وغيرها من مناطق في داخل سوريا بحكم انتقالات والده الذي كان يعمل قاضيا، وهو الذي زرع في نفسه وهو طفل حب قراءة الأدب والشعر والفكر والفلسفة، حتى أنه كتب الشعر في بدايات شبابه الأول والتحق بكلية الآداب بجامعة دمشق وتخرج منها، لكنه في عام 1968 ترك الشعر جانبا وعاد لعشقه الأول (الفن) حيث انضم إلى نقابة الفنانين السوريين.

بدأ مسيرته الفنية من المسرح، حيث شارك في مسرحية (شيخ المنافقين) والمأخوذة من مسرحية للشاعر والممثل الإنجليزي (بن جونسون) في عام 1963، استمر تألقه على خشبة المسرح، فقد شارك في مسرحيته الشهيرة الأخرى (غربة) التي تتناول أحداثها واقع الوطن العربي في فترة السبعينيات، وهى من تأليف كل محمد الماغوط وإخراج المخرج خلدون المالح، ودخل (يوسف العظمة) عالم التلفزيون بقوة في عام 1977، حيث شارك في مسلسل (الحب والشتاء) إلى جانب كل( من منى واصف وعبد الرحمن أبو القاسم وحسن عويتي وعبد الهادي الصباغ)، بالإضافة إلى مسلسل (رحلة المشتاق) مع كل من (منى واصف ونادين خوري وعصام عبه جي وسليم كلاس) وغيرهم من نخبة نجوم الدراما السورية.

ياسر العظمة .. فيلسوف الكوميديا الغائب عن المشهد
السخرية طابعه الحاد في الإسقاط على الواقع

في العام التالي شارك (ياسر العظمة) في المسلسل التاريخي (الحكاية الثانية من سيرة بني هلال: الأميرة الخضراء)، والذي يتناول قصة (رزق الدريدي) والأميرة الخضراء وهى والدة أبو زيد الهلالي، ثم شهد عام 1980 مشاركته في مسلسلين هما (بصمات على جدار الزمن) من إخراج هيثم حقي، وفي مسلسل (أبو الخيل) إلى جانب أدهم الملا وفوزي بشارة وهاني الروماني وسحر فوزي.

في عام 1981، شارك في مسلسل (تلفزيون المرح)، وكان من إخراج المخرج هشام شربتجي، ومسلسل (طبول الحرية) من إخراج داوود شيخاني، وفي نفس العام بدأ ياسر العمل على مشروعهِ المسلسل الاجتماعي الكوميدي الناقد (مرايا) مع المخرج هشام شربتجي، وهو المسلسل الذي كان له الفضل في اكتشاف عدد من المواهب الفنية السورية والوجوه الجديدة اللذين أصبحوا نجوما متلائلئة على ساحة الدراما السورية الحالية.

تنوعت أعماله في تلك الفترة، ففي عام 1983 شارك في مسلسل (زمن الحرب) إلى جانب مجموعة من الممثلين منهم منى واصف وهاني الروماني وأحمد الزين وماجد أفيوني، واستمر في السنوات التالية في العمل على مسلسله (مرايا) بأجزائه اللاحقة: مرايا 84، مرايا 86، مرايا 88، مرايا 91، والذي يحمل عنوانا آخر هو (شوفو الناس)، ومرايا 95، مرايا 96، مرايا 97، مرايا 98، مرايا 2000، مرايا حكايا، مرايا 2001، وتعرف أيضًا بحكايا المرايا، مرايا 2002، وتعرف باسم آخر حديث المرايا، مرايا 2003، مرايا 2004 والتي تحمل عنوان آخر هو (عشنا وشفنا)، أحلى المرايا، مرايا 2006، وبعيدًا عن مراياه شارك عام 2007 في المسلسل الكوميدي الاجتماعي (رجل الأحلام) وهو من إخراج المخرجة رشا شربتجي، ثم مرايا 2011، وآخرها مرايا 2013، وفي المجال السينمائي كانت له تجربة وحيدة هي (الرجل الأخير)، وقدم برامج هادفة في الستينيات مثل برنامج تصحيح اللغة (أبجد هوز).

ياسر العظمة .. فيلسوف الكوميديا الغائب عن المشهد
أذكى وزير بالعالم

طوال مسيرته تمتد لما يقرب من (78 عاماً) لم يكن ياسر العظمة شديدا في نقده للنظام السياسي في سوريا، بقدر ما يتخيل معجبوه، بل كانت (مرايا) مشروعاً يقوم على اقتباس كثير من القصص والمسرحيات العالمية وتحويلها إلى نسخ عربية ساخرة تحمل في طياتها قليلاً من النقد العام للحياة السياسية والاجتماعية من دون مقاربتها بجدية أو عمق، وإن كان ذلك كافيا في سنوات الثمانينيات والتسعينيات لإطلاق صفة الجرأة على العظمة، عطفاً على القبضة الأمنية المرعبة لنظام حافظ الأسد حينها وسيطرته على المجال العام كلياً.

ومع ذلك توقفت مراياه الكوميدية التوعوية الساخرة، والتي لامست حياة السوريين بطريقة يصعب على غير السوريين فهمها، ومع ذلك انتشرت عربيا، ولم يكن أبدا يعتمد على قصص الخيانة الزوجية والمذكرات والعصابات المنظمة، بل كان يتقمص بالمكياج شخصيات نراها في أفقر الأزقة والحارات، ثم يروي لنا قصة .. قصة لها عبرة بأداء يضحكك ويبكيك في نفس اللحظة، يتحدث بكل اللهجات، بل يخترع لهجات جديدة خاصة بالدور الذي يؤديه، له طريقة فريدة في كتابة البديع من السجع ولكل شخصيات المسلسل بلغة عربية رصينة، يتمتع بمرونة في الجسد في الأداء وكأنه ابن العشرين وهو يبلغ من العمر سبعينا، وما حير السوريين عبر الزمن في مراياه هى جرأة ياسر في تناول مواضيع الفساد والفقر والظلم، وهى كانت مواضيع محرمة في ظل تسلط الأجهزة الأمنية وجبروتها على المواطنين، كيف تمكن من الهروب من مقص الرقيب.

ياسر العظمة .. فيلسوف الكوميديا الغائب عن المشهد
أجمل حلقات مرايا الرهان

وربما يرجع السبب في ذلك إلى أن الممثّل القدير (ياسر العظمة) خلق مراياه كانعكاسٍ للواقع الذي يعيشه، هنا، يختار بنفسه القصص وفريق العمل والممثلين ويؤدّي بنفسه أدوار البطولة المختلفة، وبالتالي لربّما أمكننا القول إن (مرايا) انعكاس لشخص (العظمة) نفسه وأفكاره ورؤيته ومواقفه، فقد أُنتجت أجزاء عديدة من المسلسل الكوميدي، وامتد عرضه لسنوات طويلة، تناول فيها المواضيع نفسها، مستعينًا بطاقم شبه ثابت من الممثلين، وربما هذه الصفات، حوّلت (مرايا) من مجرد مسلسل إلى عالم مواز، يملك خصائص مميزة ومنطقا خاصا لمجرى الأمور فيه، حيث تقوم في داخله أشكال مختلفةٌ من العلاقات والبنى الاجتماعية،و في الوقت نفسه يبدو هذا العالم سوداويا ومظلما بشكل مشابه للعالم الواقعي، لكنه يغلف بالسخرية والهزل أنواع الرعب والخوف والعنف المعششة فيه وفي ناسه.

ولقد كشف (ياسر العظمة) في رحلته داخل عالم (مرايا) مقدار العنف الكامن والظاهر الذي يحكم علاقة الفرد بالدولة وممثليها، وكيفية انعكاسه في علاقته بالأفراد الآخرين في المجتمع، خلق (ياسر) هذا العالم عندما حدق في مرآته، رآه فعبر إليه، هناك، أدرك سريعا أنه وإن كان خالق هذا العالم فهو لا يملك حرية مطلقة فيه، فالرقابة هنا أيضا، وكذلك المخابرات والدولة والجيران وزملاء العمل والأقارب والأصدقاء، في الوقت نفسه اكتشف أنه كخالق لهذا العالم الذي يمزح السخرية بالفارس، يمتلك القدرة على التقمص والحلول، فراح ينتقل من شخصية إلى أخرى ومن وعاء إلى آخر، مشكلا كل واحد منها على مزاجه، معطيا إياها طباعا ولهجات وسلوكيات مختلفة، ليصرح ويلمح من خلالها عما يجول في خاطره، ومن ثم رسم (العظمة) في رحلته الطويلة هذه الشخصيات للمشاهدين تحمل ملامح لواقعٍ مرعب يغدو فيه كلّ آخر جحيما لا يمكن للفرد النجاة منه.

وفي رحلته الطويلة تلك والمستمرّة في مرايا رسم (ياسر العظمة) أيضا ملامح عالم مظلم، مسدود الأفق، لا تقف الدولة فيه عند حد، وصولا إلى الإخصاء الكامل للمجتمع، هناك يجد العظمة نفسه مكشوفا أمام عنف متعدد المصادر، ومحاصرا دون أي أمل بالنجاة، وفي وضعٍ كهذا يظهر الجنون مهربا نهائيا ووحيدا للخلاص، نعم أحيانا يفرض الجنون نفسه كما في حالة (أبو الفوز) في (مرايا، 1999) الذي يدور بعربته في شوارع المدينة، وأحيانا يأتى طوعا كما في حالة (أبو كعكة) في (حكايا، 2000) الذي يمضي إلى قرية نائيةٍ يدّعي فيها فقدانه العقل.

ياسر العظمة .. فيلسوف الكوميديا الغائب عن المشهد
أبرياء ولكن

في كلتا الحالتين، (يُرفع التكليف) من جانب (ياسر العظمة) عن الرجل، فيتاح له فعل وقول ما يريده دون رادع، إذ يضعه الجنون تلقائيا خارج هرمية المجتمع، فيتحرر بشكل كلي من دوره في المنظومة القائمة وعلاقاتها، أو بمعنى آخر، يصير الجنون، بما يستلزمه من ثمنٍ متمثل بتخلي الإنسان عن كل مظاهر الحياة العادية، الإمكانية الوحيدة لتفادي الإخصاء وبتر اللسان، لكن مهلًا، هل يبدو هذا الحل مألوفا بشكل من الأشكال؟ دعونا نوسع الإطار قليلا ونبتعد عن المرآة لنرى المشهد كاملا، حيث يتبدى لنا ياسر العظمة، الذي أسر مسبقا أنه إنما يقول ما يفكره في عالمه المصور حصرا، واقفا أمام مرآة كل المرايا، وها هو قرينه المنعكس أمامه، الكوميدي الذي يلبس ثوب (بهلول) حكيم معاصر، يقفز من مرآة لأخرى ليقول ما يريد كيفما يريد.

ياسر العظمة .. فيلسوف الكوميديا الغائب عن المشهد
إطلالته الأخيرة مع قصيدة (إن رضيت دمشق)

وأخيرا وبعد توقف زاد عن 7 سنوات عن الشاشات وعن المشهد الدرامي العربي بشكل عام، وفي ظل إضاءة خافتة، ظهر (ياسر العظمة) بذقن طويل أبيض، مرتديا بدلة رسمية من دون ربطة عنق، ليقدم أولى حلقات برنامجه (مع ياسر العظمة) بقصيدة مؤثرة عنوانها (إن رضيت دمشق)، حملت دلالات رمزية تحدث في أبياتها الأولى عن جائحة كورونا وكيف أثرت سلبا على المجتمع السوري الذي يرزح تحت آثار الحرب والفقر وفساد المسؤولين، ووفق قصيدة العظمة التي نظمها على طريقة الشعر العمودي، وتحدث فيها أيضا عن الحكام والأسياد الذين يمتلكون الذهب والنفائس في قصورهم، في الوقت الذي تعاني فيه الرعية من الفقر والنكران من قبل السلطة، يرصد كيف وصل بالناس الحال إلى اليأس بعد ضياع العمر على أمل التغيير، وفي الدقيقة الأخيرة من قصيدته، تغنى بالعاصمة السورية دمشق لكونها (منارة سطعت) وفق كلماته، قبل أن يختم الحلقة بطلب السماح منها وقبول الاعتذار عن الإساءة، ترافق ذلك مع موسيقى حزينة وتحول الألوان إلى الأبيض والأسود، وهو يقول في مقطعها الأخير:

يا شام أنت منارة سطعت

قد شع فوق جبينك الطهرُ

عرفت مكانك الدنا زمنًا

أنت العلا يزهو بك الفخرُ

يا شام لن ننساكِ إن ننسى

حتى يضم رفاتنا القبرُ

مهما اعتذرنا عن أساءتنا

قد لا يليق بقدرك العذرُ

هذه دمشقٌ يزينها أدبُ

من صيتها يستخرج العطرُ

فدمشق عاصمة الزمان

فإن رضيت دمشق تبسم الدهر.

ومن خلال نفس حلقات برنامجه هذا هاجم (العظمة) حالة الإعلام والفن في سوريا وحال اليوم من كثرة المسلسلات وغياب الفكر وطغيان الجهل عندما قال: (إعلامنا زادت مساوئه، جهل طغى، والغائب الفكر، فالمشهديات التي عرضت فيها تجلى الطبل والزمر)، وفي ظهور آخر تكلم عن أساتذته بكثير من الحنين والوفاء، وركز كثيرا على علاقته مع الشعراء ومع والده (الشاعر الذي لم يكتب شعرا)، وكأن هذه الإطلالات هى سيرة ذاتية على لسان صاحبها، عندما لم يسمح له أن يقول مايريد عبر الفن، فلجأ إلى أسلوب الحكواتي على طريقته الجميلة، كالسياسي الذي يأفل نجمه فيبدأ بكتابة مذكراته.

ياسر العظمة .. فيلسوف الكوميديا الغائب عن المشهد
في بداياته المسرحية
ياسر العظمة .. فيلسوف الكوميديا الغائب عن المشهد
حلاق المسئولين

ياسر العظمة .. فيلسوف الكوميديا الغائب عن المشهد

ياسر العظمة .. فيلسوف الكوميديا الغائب عن المشهد
الحكاوتي في برنامجه (مع ياسر العظمة)

بقي أن نذكر بأهم أقواله في الحياة والفن:

** إن الفن عامل مؤثر في المجتمعات، لكن تأثيره ليس سريعا إنما هو يترك أثره الإيجابي ببطء، إذا نحن أكثرنا من الأعمال الانتقادية الجادة، وأكبر دليل على ذلك أننا نمنع أولادنا من مشاهدة أفلام معينة خوف أن يقتبسوا منها عادات ذميمة أو تصرفات شاذة، كما تقوم بعض الحكومات بمنع عرض بعض الأعمال التي تنتقد سياساتها، لذا فللفن ذاك السحر لكنه ليس سلطة تنفيذية أو إجرائية.

** أما عن الخطوط الحمراء التي لا يمكن له أن يتجاوزها فيوضح العظمة قائلا: إنني أتجنب التجريح والإساءة والشتيمة والمبالغة في تجسيد الخطأ كي لا أخرج من مصداقية الواقع، كما أحاول أن لا أجترح أو أتطاول أو أسيئ إلى المعتقدات التي يقدسها الناس.

**  وعن ياسر العظمة الانسان يقول: إنني أحب القراءة وأتفاعل مع الأحداث وأقدس أسرتي وأحب زوجتي وأطفالي، كما أنني أغبط الناجحين من زملائي ولا أبخل بمساعدتهم كيفما استطعت

** عن قلقه وهواجسه وطموحاته يقول: أنا لا أضع لحياتي منهجاً ولا لطموحي مخططاً كما أعمل بجد واضح ناظراً إلى تقدير الناس وإعجابهم، أما داخلي فهو يملك مخزوناً كبيراً لم يظهر للنور بعد.. لكن، ما أكثر ما نحلم به وما أقل ما يمكن تحقيقه.

** أما عن المرأة وموقعها في حياته فيعترف العظمة أن زوجته هى المؤثرة في تلك الحياة وهى السر وراء نجاحه والقارئ الأول لأعماله وهى على درجة من الذكاء وتريد لي النجاح دائماً.

تحية تقدير واحترام للفنان الكبير والقدير (ياسر العظمة)، فيلسوف الكوميديا الساخرة اللاذعة التي أثرت الدراما السورية بلوحات غاية في الروعة تتمع بالجرأة والكشف عن تناقضات المجتمع ونقائصه في أكثر لحظات سوداوية، حيث كانت السلطة السورية تحكم قبضتها على المواطنين، لكنه استطاع بذكائه الحاد في الكتابة والتأليف والتمثيل أن يفلت من كل ذلك عندما وضع لنفسه فلسفة خاصة في كيفية انتزاع الضحك من فوق شفاه الحيارى والحزانى من موطني سوريا أيام كان الفن لغة تتحدى كل لغات السياسة من صلف وجبروت.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.