بقلم الكاتب الصحفي: محمود حسونة
الفنانون أيضاً يعانون (بطالة) محبطة، وبعضهم يفكر في الهجرة هرباً من الجوع، وبعضهم يبيع ممتلكاته ليفي بالتزاماته وبعضهم يصرخ استغاثة أملاً في أن يفتح أمامه أحدهم باب تم إغلاقه على من يمتلكون مهارات أخرى غير الموهبة.
نعم ليس كل الفنانين يعيشون في رفاهية، وليسوا جميعهم يملكون طائرات خاصة وأساطيل من السيارات، وليسوا جميعهم يلقون بالدولارات في حمامات السباحة، بل أن عديد منهم يعانون عدم الاستقرار المادي.
صوت الذين يعانون من (بطالة) عالٍ وصرخاتها مدوية، نتيجة العجز الذي تصيب به من يعيشونها بعد أن تتقطع بهم السبل ويجدون أنفسهم كائنات بلا قيمة ولا دور ولا وظيفة ولا قدرة على تحمل مسؤولياتهم.
كائنات مشوهة في نظر أبنائهم وزوجاتهم وذويهم، عاطلة عن العمل ومعدومة النفع، الموت لها راحة ولمن حولها لا خسارة، يعيشون بيننا ويصرخون ليل نهار ولكنهم غير مسموعين.
غالباً ما يكون عدم سماعهم تجاهل، فهم يصرخون أملاً في أن تمتد إليهم أيادي العون، ومن في أيديهم الحل يتخذون التجاهل مسلكاً؛ هو وسيلة لهروب غير القادرين على مساعدتهم.
يشاركونهم الألم ولكن في صمت نتيجة عجزهم هم أيضاً عن حل مشاكل غيرهم، حامدين شاكرين على أن هذه البطالة القاتلة لم تضعهم في موقع الإذلال مثل الصارخين بلا مجيب؛ وهو وسيلة القادرين أو أصحاب القرار ولكنهم لا ينشغلون سوى بالمقربين والمحاسيب.
هناك (بطالة) تقتل المواهب وتطرد المبدعين الذين يضطرون للبحث عن مايلبس احتياجاتهم خارج الحدود، وهي داء يصيب قطاعات وفئات مهنية مختلفة، فهي فيروس معدٍ إذا انتقل إلى مجتمع تنقل بين أبنائه واختار منهم الضعفاء الذين لا يجيدون النفاق والتطبيل وتسيير الأمور، يصيبهم ويجعلهم على عدم إذعانهم نادمين.
لا فرق في ذلك بين مهندس أو طبيب أو إعلامي أو محامي أو فنان أو غير ذلك، فالكل أمام البطالة سواسية والكل للداء هدف.
سنوات من الصراخ المتقطع
ليس كل من حقق ذاته منافقاً ولكن ذلك لا ينفي أن البعض استطاع تحقيق الذات بالنفاق والتطبيل، وأن البعض تم قطع الطريق عليه ليقف في مكانه متجمداً بسبب وضوحه وشفافيته، رغم أنه أكثر مهارة وحرفية من غيره، صعد إلى القمة من دون مؤهلات علمية ولا حرفية.
في الماضي كانت مصر تنتج عددا محدودا من المسلسلات، ورغم ذلك فقد كانت تستوعب الجميع، ومن ليس له مكان في الدراما له مكان في السينما، واليوم فإن الانتاج كثير ولكن الشكاوي أكثر.
بعد سنوات من الصراخ المتقطع الذي يصدر عن هذا الفنان أو ذاك من وقت لآخر تألماً من وجع جراء (بطالة) صارخة، كانت الاستجابة، جاءت متأخرة ولكنها جاءت ونتمناها استجابة صادقة مخلصة لوجه الله ولأجل وطن متوحد لا يفرق بين أبنائه.
ولأجل مواهب وفنانين لهم حق الحياة وحق العمل وحق الابداع الذي احتكره زملاء لهم خلال السنوات الماضية.
الاستجابة لم تأت هذه المرة من خلال وعد شفوي، ولكنها جاءت بتوقيع (المتحدة للخدمات الإعلامية) بروتوكول تعاون مع مدينة الإنتاج الإعلامي ونقابة المهن التميثلية لإنتاج أعمال تاريخية ودعم تشغيل أكبر عدد من الفنانين الذين يشكون من (بطالة).
حيث قررت الشركة إنتاج مجموعة من الأعمال التاريخية والدينية وتطبيق آلية للاستفادة من الفنانين الذين لم يحظوا بفرص للمشاركة في أعمال خلال السنوات الماضية، لإشراكهم في أعمال درامية، تلفزيونية وإذاعية.
حسب البيان المنشور فإن البروتوكول يتضمن قيام (الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية) بإنتاج عدد من الأعمال التاريخية والدينية عن أشهر المفسرين في التاريخ الاسلامي، وعن دور المرأة المميز في الإسلام، وعن الإسهام العلمي للعلماء في الحضارة الإسلامية.
كما سيتضمن البرتوكول الأعمال التاريخية وسير رواد لهم إسهامهم في البناء الحضاري في الإسلام وإنتاج عدد من المسلسلات الإذاعية الدرامية.
وقررت مدينة الإنتاج الإعلامي المشاركة في البروتوكول بالمساهمة وتوفير أماكن التصوير التي تصلح للمشاهد والوقائع التاريخية والدينية، وكذلك تقديم مخزون من الملابس والإكسسوار التي تعد إسهامًا انتاجيًا مميزًا.
بروتوكول (المتحدة) متأخر ولكن؟!
خيراً فعلت (المتحدة، والنقابة، ومدينة الإنتاج) بهذا البروتوكول، ولو جاء القرار متأخراً فالمهم أنه جاء، ولكن الغريب أن يتم الإعلان عن تشغيل هؤلاء العاطلين عن العمل في مسلسلات تاريخية ودينية.
علماً أن هذا النوع غائب بشكل شبه كامل عن إنتاجنا الدرامي خلال السنوات الماضية، والدراما التاريخية والدينية لا ينبغي التعامل معها على أنها مجرد وسيلة لتشغيل العاطلين.
فما أحوج أجيالنا الشابة لأعمال درامية تعرفهم على علمائنا ورموزنا والفترات المهمة من تاريخنا الزاخر بمراحل بالحكايات والمعارك والمؤامرات التي أحيكت ضد هذا الوطن واستطاع بأبنائه الأبطال أن ينتصر ويتجاوز ويبقى صامداً في وجه الغدر والطمع والجشع.
ما يثير الاستغراب أيضاً عدم الوعد بضم هؤلاء العاطلين عن العمل إلى الأعمال المعاصرة، وما أكثرها، سواء تلك التي يتم إنتاجها للعرض الرمضاني أو التي تنتج على مدار العام للمنصات.
فما جاء في البروتوكول من وعد بإنتاج أعمال دينية وتاريخية لتشغيل هؤلاء فيها يوحي بأن التاريخ والدين أصبحا منفى جديداً لهم أو إنه مجرد وسيلة لإسكاتهم، خصوصاً أن الأجيال الجديدة والشباب لا تستميلهم تلك النوعية من المسلسلات، وبالتالي لن يشاهدوا هؤلاء (الكبار) سناً وخبرة في أعمال حديثة!
البروتوكول صدر بعد أيام من منشور الفنان (أحمد عزمي)، وهو يناشد زملاءه الفنانين مساعدته للمشاركة في أي عمل درامي أو سينمائي، وبعد يوم من نشر الفنان (كريم الحسيني) تدوينة أخرى اشتكى فيها من البطالة وعدم الاستعانة به في أي أعمال فنية، مقرراً الاعتزال والهجرة إلى الخارج بحثاً عن حياة أفضل.
وبعد أن نشر الفنان (شريف إدريس) تدوينة أكد فيها أن معظم أفراد جيله من الممثلين يعانون من (بطالة) تطاردهم في عيشهم.
هؤلاء ارتفع صوتهم بالشكوى خلال الفترة الأخيرة ولكن اشتكى غيرهم منذ سنوات ولم يستمع إليه أحد، ومن هؤلاء الفنان (شريف خير الله)، الذي باع ممتلكاته ولجأ إلى الاقتراض من البنك، ومها أحمد التي استغاثت قبل عامين بأصدقاء من دون جدوى ولم تجد أمامها سوى عالم التيك توك لتسترزق منه.
ولكنه انعكس عليها تنمراً، وزوجها الفنان الموهوب جداً (مجدي كامل)، والذي آثر الصمت ولم يقبل بإهانة كرامته وتسول دور أو عمل هو من أبسط حقوقه وحقوق موهبته.
هؤلاء ليسوا سوى نماذج لفنانين كثر يعانون من (بطالة) واضحة، ناهيك عن المؤلفين والمخرجين، بعد أن ضاقت الأرض بما رحبت، واستحوذت فئة قليلة على الساحة الإبداعية لأسباب لايتسع المجال للخوض فيها.
نتمنى أن يحل هذا البروتوكول الأزمة وأن يعيد المسؤولين عن الإنتاج في مصر النظر ويفتحون الأبواب أمام الجميع، ولا يفرقون بين الناس على أسس الشلة والمصلحة الضيقة لأن الخاسر في مثل هذه الحالات هو الوطن وسمعته وصورته في عقل ووجدان أبنائه.