رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

عصام السيد يكتب : صناعة نجمة

بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد

لم يكن (عزيز عيد من الرجال الذين يستسلمون للهزيمة أو يركنون إلى اليأس إذا غلبتهم معارك الحياة ، فلم يقبل أن يجلس فى منزله بعد خروجه من فرقة رمسيس. لم يكن يملك المال فقد أنفقه جميعه على تأثيث الفيلا التى سكن بها هو و عروسه الشابة فائقة الجمال (فاطمة رشدى) ، و لكنه يملك العقل الذى يصنع المال . لذا ذات صباح تألقت عيناه و هو ينظر للصالون الذى اشتراه بمبلغ 400 جنيه و هو يقول لزوجته : لسنا بحاجة إلى هذا الصالون الفاخر ، سيصبح مالا سائلا أنشئ به فرقة اسمها فرقة فاطمة رشدى !!

لم يكن عزيز يطلق على أى فرقة كونها من قبل اسم شخص ، بل كانت كلها أسماء تبتعد عن الاشخاص ، و لم يكن أحد يطلق اسمه على فرقته إلا كبار النجوم من الرجال ، فهناك على سبيل المثال لا الحصر : جوق أولاد عكاشة و فرقة عطالله ، و جوق سلامة حجازى . حتى يوسف وهبى أطلق على فرقته اسم رمسيس ، أما السيدات فلم نسمع أن هناك فرقة تسمت باسم سيدة ، حتى نجمة النجوم فى ذلك الوقت ( منيرة المهدية ) التى وقفت على المسرح مع فرقة عزيز عيد ( الكوميدى المصرية ) ثم انفصلت عنه ، فقد أسمت مسرحها – أو ملهاها – الذى أنشأته فيما بعد باسم (نزهة النفوس ) ، و قدمت عليه مسرحيات سلامة حجازى التى قامت فيها بأدوار الرجال. و سواء تسمت فرقتها باسمها أو لا ، فهى نجمة النجوم ، فكيف بممثلة صاعدة ؟ حتى النجمة الأخرى التى عاصرت فاطمة و عزيز ( بديعة مصابنى ) فبعد أن انفصلت عن فرقة الريحانى أنشأت الكازينو المسمى باسمها ( كازينو بديعة ) فى العام التالى لتكوين فرقة فاطمة رشدى . و هكذا كان عزيز سباقا إلى تسمية فرقته باسم سيدة ، هى حبه الوحيد و نجمته التى صنعها .

عزيز عيد

على الفور رهن عزيز ذلك الصالون النفيس بمبلغ 100 جنيه ، و تقول الفنانة القديرة ( صفاء الطوخى ) فى كتابها عنه إنه استأجر المسرح المجاور لرمسيس !! و شرع يكون فرقته الجديدة ، لا ليحقق أحلامه المسرحية فقط ، و إنما ليقوم بصناعة نجمة ، تقف على قدم المساواة مع عتاولة فن التمثيل ، و ظهرت فى شوارع القاهرة إعلانات ضخمة تبشر بالنجمة الجديدة على رأس فرقتها ، التى تنبأ لها إسماعيل وهبى – شقيق يوسف وهبى و مدير فرقته – أنها لن تستمر أكثر من ثلاث اسابيع ، ضمن حملة تكسير العظام الصحفية التى تم شنها على عزيز عيد.

و لأن الوقت كان صيفا ، حيث يرتحل أفراد الطبقة العليا و معظم أفراد الطبقة الوسطى إلى المصايف ، فإن الفرقة لم تنجح ماديا ، حتى درة التاج و أفضل ما قدمت فاطمة رشدى على المسرح و صنعت شهرتها فى فرقة رمسيس (مسرحية : النسر الصغير ) باءت بالفشل وسط جمهور اعتاد الروايات الفكاهية الغنائية . فلم يجد عزيز مفرا من الاتفاق على إحياء مجموعة من الحفلات لمدة أسبوع بمصيف رأس البر ، و هناك قدم المسرحية الكوميدية ( لوكاندة الأنس ) – التى قدمتها فرقة المتحدين فيما بعد باسم ( لوكاندة الفردوس ) – و لكن عبقرية عزيز تجلت فى تصميم مناظرها من القش تمشيا مع طبيعة ( عشش ) مصيف رأس البر فى ذلك الوقت.

و عندما عاد عزيز إلى القاهرة ، عادت أزمته من جديد التى تسميها الطوخى : أزمة تناقض الحلم مع الممكن ، فمن أين سيأتى بالمال ليقدم موسما جديدا يدفع فرقة فاطمة رشدى إلى الاستمرار و البقاء ؟ و ظل حائرا حتى وضعت فاطمة بين يديه 10 آلاف جنيه قدمها لها صديق مليونير لبنانى هو ( المسيو إيلى ) الذى قال لها باسما : ( بهذا المبلغ البسيط تستطيعين أن تقدمى موسما فنيا مشرفا ، تقفين فيه على قدم المساواة مع فرقة رمسيس . و كم أكون سعيدا لو خسرت هذا المبلغ كله و لكن بعد أن تكونى قد قدمتى عملا فنيا رائعا ).

عشرة آلاف جنيه ؟ إنه مبلغ يفوق ما صرفه يوسف وهبى على مسرحه !!

فاطمة رشدي

و كعادة عزيز عندما يتوفر له المال – كما تقول فاطمة رشدى فى مذكراتها – شرع يعمل بكل همة ، فأستأجر مسرح (دار التمثيل العربى ) و بدأ يعده فنيا و هندسيا ويزوده بأحدث وسائل الإضاءة ، كما مد أسلاكاً حديدية فى سقفه لتساعد على عدم تبدد الصوت . و أخذ يعقد الاجتماعات مع عدد من الأدباء و الكتاب لاختيار أفضل الروايات العالمية لترجمتها عن طريق ممثلين شغوفين بالأدب و الثقافة ، حتى تأتى الترجمة صالحة للمسرح ، و اشترى من صاحب (مسرح الكورسال ) كميات ضخمة من المناظر و الملابس التى خلفتها إحدى الفرق الإيطالية.

و ظهرت الإعلانات من جديد تعلن عن موسم جديد لفرقة فاطمة رشدى فى 17 اكتوبر 1927 ليقدم عزيز من خلالها 15 مسرحية فى 7 شهور نجحت معظمها نجاحا باهرا و كانت تعاد بناء على طلب الجمهور . و هكذا استطاع عزيز أن يؤكد أن فرقة فاطمة رشدى منافس قوى لابد أن يؤخذ بعين الاعتبار ، و على الفور احتاط يوسف وهبى لنفسه بعد أن أضحى موقف فرقته خطيرا – كما يقول فتوح نشاطى فى مذكراته – فاتفق مع جورج أبيض أن ينضم لفرقته ( على ) أن يتقاسما الأدوار الأولى.

و اشتدت المنافسة بين الفرقتين ، إذ كانت الفرقتان تمثلان نفس المسرحية فى نفس الأسبوع ، فكان الجمهور يشاهد الفرقتين و يقارن بينهما ، حتى صارت تلك المنافسة حربا فنية ، تستخدم فيها كل الوسائل المتاحة ، فلجأ يوسف وهبى إلى تقديم مسرحيات الميلودراما – مسرحيات الفواجع – و لجأ عزيز عيد لمزيد من الإبهار فى الديكور والملابس و الإخراج . و هكذا صار موسم 1927 / 1928 عهدا ذهبيا فى تاريخ المسرح المصرى بالأعمال التى قدمت فيه ، و إن كان بعض النقاد أعابوا على عزيز ابتعاده تماما عما يقبل عليه الجمهور من رقص و غناء و ضحك.

يوسف وهبي

و لكن عزيز – كما وصفته فاطمة رشدى – لم يكن من المهتمين بجمع المال و لكنه كان يرى المسرح رسالة عظمى يجب أن تؤدى مهما بلغت التضحيات ، و أن الجمهور يجب أن يشاهد هذه النوعية من المسرحيات ليرتفع ذوقه و يتسع أفقه و يعرف لغته العربية معرفة وثيقة ، بدلا من الاستسلام لغزو اللغات الأجنبية لثقافته ، لتصبح وسيلة التعامل اليومى . بل يعترف عزيز بنفسه بأنه رجل يعرف جيدا أنه سيخرج من كل هذا صفر اليدين ، لا يملك أبيض أو أسود ، و لكن كل أمله أن ترى عيناه قبل أن يغمضهما الموت ذلك الخيال الذى تراه عيناه فى كل ساعة ، يتحقق ، حتى لو كان يرقد على فراش الموت فقيرا بائسا لا يملك ما يسد رمقه.

و برغم النجاحات التى حققتها ( فرقة فاطمة رشدى ) بقيادة ( عزيز عيد ) لم تتوقف الحملة الصحفية ضده ، و لكن باستخدام أساليب أخرى ، فقد بدأت بعض الصحف تكثر من التعليقات على المساعدة المالية التى قدمها ( مسيو إيلى ) لفاطمة و تفسر أسبابها كما يحلو لها ، و عزيز مجرد بشر و أيضا مرهف الحس ، فلم يحتمل تلك التعليقات التى أصبحت حملا ثقيلا على علاقته الزوجية . و بالفعل أثمرت تلك الحملة فى إيقاد نار الغيرة فى قلبه  ( مما اضطرنى أنا و عزيز إلى الانفصال على أن تظل الرابطة المقدسة الأخرى ما بيننا : رابطة حب المسرح ( ذلك ما قالته فاطمة ثم أضافت : و هكذا طلقنى عزيز فى هدوء ).

فكيف استمرت بينهما الرابطة المقدسة الأخرى ؟ لهذا حديث آخر …

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.