رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمد شمروخ يكتب : (هيدجر وكافكا والشيخ ياسين) !

بقلم : محمد شمروخ

خلال الأسبوع الماضي تلقيت دعوة من الصديق الكاتب الصحفي أحمد المسلمانى لحضور محاضرة للدكتور محمد ثروت حسن العالم المصرى الصاعد الواعد، وذلك عن اكتشافاته الجديدة سالكا دربا سار عليه من قبله الدكتور أحمد زويل رحمه الله، ليكمل مسيرته وسيتحدث عن اكتشافه الجديد برصد حركة الإلكترون في زمن مقداره واحد على مليار من المليار من الثانية.

وكنت حريصا على الحضور للاستماع إلى الدكتور ثروت الذي قدمه لنا الأستاذ المسلمانى قبل أن يلقى محاضرته في مركز القاهرة للدراسات السياسية والاستراتيجية.

وأرهفت السمع جيدا للدكتور ثروت وأعجبنى فيه تواضعه وأدبه الجم، كما أنه لم يذهب مذهب كثير من النابهين والناجحين من أبناء مصر في الخارج، بالشكوى من الأجواء الدراسية والعلمية والإدارية – وكلنا نعرفها – فقد قدرت عدم إشارة الدكتور ثروت لذلك ولو من بعيد، حتى لو كان قد عانى منه، ذلك أنه كشخصية عملية يتحلى بروح المثابرة والإصرار على النجاح في سبر أغوار المادة وجس نبض الكون.

د. محمد ثروت حسن مخترع (الأوتو ثانية)

ولعل الفيزياء امتازت بين العلوم الأخرى بالتقدم المذهل والذي انعكس على تلكم العلوم نفسها، فصارت الفيزياء تبدو أحيانا كقاطرة لقطار العلم الطويل، خاصة مع التطبيقات العملية التى تبلورت في الاختراعات القائمة على أساس تلك الاكتشافات في مجالات لا تحصى، لا سيما في الطب والاتصالات وكافة النواحى التطبيقية بالمجالات المتصلة بالحياة اليومية، وحتى ارتياد الفضاء وتطوير الأسلحة!

ومن بين الأشياء الطريفة أن معهد (ماكس بلانك) الألمانى الشهير، قد قبل التحاقه بعد المحاولة الخامسة للالتحاق به وكانت تلك المحاولات هى نفسها سبب قبوله قبل أى شروط أخرى للدراسة، فقد أكد هذا الإصرار لهم أنهم إزاء شخص لدية عزيمة لتحقيق أمر ما.. وقد كان!

ومن معهد (ماكس بلانك) إلى جامعات أمريكا، ليستقر حسب التعريف الأخير، كأستاذ للفيزياء والعلوم البصرية بجامعة أريزونا هناك.

كل هذا جميل ورائع والأروع هو حضور الدكتور محمد ثروت حسن إلى مصر لتقديم خبراته التى لا شك ستفيد في كثير من المجالات، فيكفى أن نعرف أن اكتشافه المذهل برصد وحدة (الأتوثانية) متجاوزا إنجاز الدكتور زويل أستاذه المباشر صاحب (الفيمتو ثانية) والتى سبق أن رصد فيها حركة الجزيء (واحد على مليون من البليون من الثانية)، وقد سبق أن شرحه زويل بنفسه في طريقة مبسطة بأن (الفيمتو ثانية) هى الزمن الذي يستغرقه مرور الضوء القادم من القمر إلى الأرض على شعرة، مع العلم أن نور القمر يستغرق في رحلته من سطح القمر إلى عين الرائي على الأرض عدد واحد ثانية فقط لاغير، ومدة المرور على عرض تلك الشعرة، هى الفيمتو!

فما بالك إذن بالمليار على مليار!

إنه عالم يتجاوز أساطير كل الشعوب في الماضى والحاضر!

أحمد زويل والفيمتو ثانية

هذا جميل جدا ولكن مع ذلك لم يهمنى إلا أسأل الدكتور ثروت وأناقشه في أمر أقض مضاجعى وأشقى وسائدى، فجئت الليلة لأسأل وأستقصى لعل وعسى أن أجد أجوبة لتساؤلاتى الحائرة كقاصد طريق وعر يلتمس دليلا بعيدا، فلست دارسا للكيمياء ولا الفيزياء – أنا أساسا كنت أدبي – وكل معلوماتى عن هذا المجال يادوبك كم كتاب في تبسيط العلوم، على بضعة كتب في فلسفة العلم كان يجرى التعرض فيها للنسبية ونظرية الكم، فقط كمعلومات عامة هى لدى بمثابة مرور ضوء القمر على الشعرة نفسها وهو بينها وبين التخصص كالمسافة من نجم الشعرى إلى الأرض وليس الشمس ولا القمر!

فما الأمر إذن؟!

إنها الفلسفة التى بليت بعشقها حتى وإن لم أكمل التخصص فيها سوى بالليسانس من كلية الآداب جامعة عين شمس.. ولا تسألنى عن التقدير!

لكن وحياة ربنا كنت جادا جدا وأن أطرح سؤالا على الدكتور ثروت عن موقف الإنسان من هذا التقدم المذهل سواء في العلوم أو في تطبيقاتها.

صدقنى هذا التطور السريع في العلوم يهمل الإنسان إلى درجة أنه يهدد حياته بالعبثية والعدم!

كيف؟!

هذا الإنسان الباحث عندما يقف فوق الميكروسكوب ليرصد ما تحته. أو تحت التليسكوب ليرقب ما فوقه : ترى ما علاقة ما يحدث في مجاهل هذا التحت، عندما تتكشف أو أضابير ذلك الفوق عندما تتجلى؟!

قف هنا يا عزيزى فتطور العلم وسرعته يتركانى كإنسان ليلقى بعيدا في جوف الكون، ليجد نفسه في هوة سحيقة بلا قرار، المادة أصبحت بعد ميكانيكا الكم غير المادة التى تصورها الإنسان قبلها والكون بعد النسبية تكشف عن كون آخر عما قبله!

هيدجر

المحصلة أن أى اكتشافات ونجاحات علمية بتطبيقاتها العملية وانتشارها وتغييرها لأنماط وسلوكيات وعادات الإنسان، الفرد والنوع، المواطن والمجتمع، الشعب والدولة، تتجاهل جوهر هذا الإنسان ذاته وتتركه حائرا مهددا بالعبثية والجمود والعدمية!

حقا ذكر الدكتور ثروت في إجابته المركزة، أن هذا هو دور علماء آخرين في الاجتماع والدين وعلم النفس والأخلاق، مخليا مسئوليته كباحث أكاديمى يقدم أبحاثه التى يمكن أن تستغل في التطبيقات التي ستضاعف من سرعة الهاتف المحمول والذي صار هو وعاء الحياة المعاصرة وكذلك الكمبيوتر الذي يحكم كل حياتنا، إلى مليار مرة!

(يا دين النبي.. ما تصلى كده ع النبي في قلبك يا صاحبي).

فعن طريق هذا الاكتشاف تم على يد الكتور ثروت، تغيير خواص الزجاج فصار على عكس طبيعته من موصل رديء للكهرباء إلى موصل جيد لها!.

(الله يرحم كتاب علوم رابعة ابتدائي وتجربة الكرة والحلقة)!

بس يا نهار مش فايت.. يعنى ممكن نرجع لحلم السيمائيين القدامى بتحقيق محاولات تحويل المعادن إلى ذهب؟!

وليه لأ؟!

إذن قد ياتى يوم كل شيء حولنا سيتحول إلى ذهب!

الدكتور استبعد ذلك الطرح الأسطورى.. بس برضه ليه لأ؟!

يا داهية دقى.. يعنى ممكن لا نجد خشبا لصنع الأثاث؟!

يعنى قايمة العروسة ستكون كلها دهب في دهب حتى السفرة والأنتريه؟!

(يا حزنكم التقبل يا رجالة مصر)!

 لكنى بجد.. مازلت مصرا على أن التقدم العلمى في العالم المعاصر قد قطع المشيمة بين الإنسان والكون!

كافكا

تلك المشيمة كانت موجودة في علوم وعلماء القرون الأولى، في الأساطير والفلسفة والأدب ولم تزل باقية في الدين، لكن العلم الحديث قطعها وألقى بها في مكان مجهول، ليعمق من اغتراب إنسان العصور الحديثة وإظهاره ككائن لقيط في تائه في أرجاء الكون، حتى لو كان هذا الإنسان هو الراصد أو الباحث نفسه!

بس ده كلام لا يودى ولا يجيب!

والنعمة معاك حق.. بس اعتبر أنى أعبث.

غير انك تنسى أمرا في غاية الأهمية .

إذ أن العلم لا يعرف العبث!

بيد أن العبث نفسه ليس له تفسير علمى، على الأقل حتى الآن!

أليس من السخرية المريرة أن يجروء العبث على العلم، بينما لا يجرؤ العلم على العبث!

ما هذه النظرة الكاموية التى ستتحول حتما إلى مأساة كافكاوية؟!

ألا من تفسير غير عبثية (ألبير كامى) وكآبة (فرانتز كافكا)؟!

لكن ليس للعبث تفسير علمى ولا للمأساة كذلك، تماما كما أن الإنسان نفسه – لا سيما الإنسان الفرد – ليس له أي تفسير علمى أيضاً، فأنت ليس إلا كتلة تفاعلات ناتجة عن إفرازات كيميائية عضوية وهرمونات رايحة وهرمونات جاية، من كبد لمعدة لغدة كظرية، أما أنت من حيث أنت، فليس معترفا بك من الناحية العلمية، أنت مجرد ملاحظ لا يُلاحظ، مجرد شئ ملقى في الكون، تماما كما ذهب (مارتن هايدجر) أو هو (سراب ظمآن يراه الحائر) كما يشدو الشيخ ياسين التهامي!

الشيخ ياسين التهامي

يعنى في الآخر انتقلنا من المحاضرة إلى الحضرة

هذا بالضبط ما أقصده يا صديقي العزيز، بشرط لو فهمته!

 فهذا هو الذي يحتاج إليه الإنسان، أن يعيد البحث عن المشيمة التى فقدها ليعاود الاتصال بالكون لاسيما أن رحابة الأسطورة وتحررها عادت لتتحقق في اكتشافات علمية معملية، مثل نتائج أبحاث الدكتور محمد ثروت حسن!.

فما حدث يمكن أن يمسح عن وجه العلم تجهمه في وجه الإنسان، ليعيد الاعتراف به ويعاود توصيل المشيمة الكونية، فما جاء بالعلم قد جاوز الأساطير فلتعد إذن أجواء هذه الأساطير بروح العلم ليجد الإنسان نفسه بعد أن ضل في مجاهل كون عظيم صار الآن أعظم من أى تصور علمى سابق في عالمين يحيطان بنا لا نكاد نعرفهما إلا بالميكروسكوب أو بالتليسكوب، فعالما المأفوق والمابعد هما اللذان تكمن فيهما الحقيقة التى يريد الإنسان أن يصل بها طرف المشيمة الأخرى!.

فهل يفعلها العلم العائد مرغما إلى أساطير الأولين؟!.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.