رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

(جزيرة غمام) .. دراما تخاطب الروح وتسمو بالفن

بقلم : محمود حسونة

قد نشاهد أعمالاً فنية قتلاً لفراغ نعاني منه، وقد يكون ذلك بحثاً عن الضحك والمتعة، أو سعياً لإعمال العقل، أو حباً في نجم أو نجمة، أو بحثاً عن ذواتنا الضائعة أو همومنا المستعصية في هذا العمل أو ذاك، أو استكشافاً لحقائق خفية علينا سواء في الماضي البعيد أو القريب أو في الحاضر الذي نعيشه، أما مسلسل (جزيرة غمام) المعروض حالياً فقد تجاوز كل الأهداف المتعارف عليها للمشاهدة الفنية، بعد أن حقق لنا حالة من السمو الروحاني، وارتفع بنا عن الماديات والحسابات الحسية، وحلّق عالياً إلى عالم لم يدركه الفن من قبل، ليغير أفكارنا ويؤكد أن الزمن الجميل لم يذهب بعد، وأن الفن الهادف لن ينفذ أبداً، وأن مصر ولادة وستظل تنجب من المبدعين من يملأون أي فراغ بل ويتجاوزون مَن اعتقدناهم آخر عنقود الإبداع الجميل.

هو مسلسل مختلف في فكرته وصياغته وشخصياته وكادراته وديكوره وكل تفاصيله، يأخذنا إلى عالم أسطوري ليضع أيادينا على جراح واقعنا، ومن خلال الرموز يضيء على أنماط من البشر تعيش معنا وتشاركنا الوطن، وقد نلتقيها في الشارع أو مكان العمل أو حتى البيت. هو مسلسل تدور أحداثه قبل 100 عام ولكنه لا ينتمي إلى زمن محدد بل يصلح لكل الأزمان. يتخذ من قرية وكأنها في الصعيد مسرحاً له، ولكن أحداثه يمكن أن تحدث في أي مكان، ويتحدث بلسان صعيدي ولكن جوهره يتجاوز كل اللهجات بل واللغات، هو عمل فني يستمتع به ويصفق له المصري والعربي وكذلك أبناء مختلف الجنسيات لو تمت ترجمته وعرضه عليهم؛ باختصار هو فن للإنسانية، ويثير داخل أي مشاهد سوي  بصرف النظر عن انتماءاته الأيديولوجية ومعتقداته الفكرية ولونه وعرقه التأمل، ويسمو بروحه فوق الصغائر التي تستنفد وقت وجهد ومال العالم.

عبد الرحيم كمال

المبدع المتألق عبدالرحيم كمال، لم يخاطب عقولنا أو مشاعرنا فقط، ولكنه خاطب أرواحنا ونجح بحواره السامي أن يصل إليها ويدفع رواد مواقع التواصل الاجتماعي لأن يقتطعوا من حواره في كل حلقة ما يكتبونه على صفحاتهم إعجاباً وتقديراً وإيماناً وتبنياً ونشراً لكلمات هى ليست كالكلمات، وخصوصاً تلك الواردة على لسان عرفات سواء في دروسه للأطفال أو في حواره مع العايقة أو مع العجمي أو في مواجهاته مع محارب أو يسري أو غيرهما، كلمات في الحب ولكنها ترتقي بمفهوم الحب، وكلمات عن الكذب تنفر منه وممن يتخذه نهجاً وكلمات عن الصدق تحبب فيه وتحفز على انتهاجه.

أحمد أمين .. عرفات الذي يرمز للمسيح وأولياء الله الصالحين

شخصية عرفات التي يجسدها باقتدار وبإحساس وبوعي كبير بالكلمة والموقف أحمد أمين، قد تكون مستوحاة من شخصية المسيح عيسى بن مريم، واستعاض عبدالرحيم كمال خلال مشاهدها عن الحواريين بالأطفال الذين يعلمهم القيم والمبادئ ويخاطب فيهم البراءة والشفافية، والعايقة هى المعادل لشخصية مريم المجدلية التي دافع عنها المسيح وقال مقولته الخالدة مخاطباً الناس الملاحقين لها (من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر) تأكيداً على أن لكل منا خطاياه التي ينبغي أن تنهاه عن معايرة الآخرين بخطاياهم. وقد تكون شخصية عرفات هى مزيج من شخصيات الأنبياء والصالحين الذين لا ينطقون إلا حقاً وصدقاً، وفي كل الحالات هى رمز لمن يعرف ويعي ويدرك ما لا يدركه الآخرون ولعل ذلك هو السبب في تسميتها (عرفات)، وفي اعتبار الكثيرين لها شخصية غير واقعية.

فتحي عبد الوهاب .. محارب اسم على مسمى

كل شخصيات المسلسل لها نصيب من أسمائها، محارب (فتحي عبدالوهاب) هو رجل الدين الذي يتاجر فيه ويتخذه وسيلة لمحاربة الآخرين ولو بالسلاح حتى السطو على السلطة وكل شيء، ويسري (محمد جمعة) هو رمز لرجل دين يتخذ الطريق اليسير ويطوع الدين لخدمة أهوائه ورغباته وشعوذاته، والبطلان (محمود البزاوي) رمز لكل باطل وخائن ومخرب، والعايقة (مي عز الدين) رمز للدنيا التي تزغلل عيون الناس وتقودهم لطريق الانحراف بحثاً عن متع زائلة، وعجمي (رياض الخولي) هو الكبير القاسي اللين، الساعي للحفاظ على بلده وتطبيق العدل فيها بالشدة والحسم وأحياناً بالمرونة، أما خلدون (طارق لطفي) فهو الشيطان الخالد والباقي (إلى يوم يبعثون)، يوسوس للناس ويخلق الفتنة بينهم، وكانت من عبقريات عبد الرحيم كمال أن اعتبره كبير طرح البحر إذ دائماً ما يصف الفلاحون النبات الذي ينبت على طرح البحر (نبات طالع شيطاني).

محمود البزاوي .. البطلان في كل تصرفاته الخسيسة

لو أردت الكلام عن سيناريو وحوار (جزيرة غمام) تحتاج إلى الكثير من الكلام لإعطاء كاتبه عبد الرحيم كمال حقه في صياغة هذه الدراما الفلسفية الصوفية التي تعري أنماطًا من النفس البشرية وتكشف انحرافاتها ويقول كلمة لم يقلها أحد من قبله، ولو أردت الكلام عن الصورة والمشهد والإضاءة واختيار الموقع لاحتجت الكثير للتعبير عن حالة التميز التي خلقها حسين المنباوي، ولأدركت أنه لم يخرج السيناريو فقط ولكنه كان يرسم ملامح لكل جملة وكلمة وحرف، وقاد فريقه كما المايسترو الذي يعزف سيمفونية الرقي الدرامي.

طارق لطفي .. الشيطان في خلوده الأبدي

أما التمثيل فحدث ولا حرج، كل ممثل شارك في هذا المسلسل خرج منه رابحاً حتى لو أدى فيه مشهداً واحداً، فالجميع أبطال وفنانون ومعلمون، وكبار المعلمين متعددين، أحمد أمين طاقة جبارة لم تستغل من قبل، أداء ممتع وتجسيد بالصوت والعيون ولغة الجسد، عندما يتحدث عن الحب في عينيه لمعة لا تجدها في باقي المشاهد، وعندما يتحدث عن القيم تجد حماساً وإيماناً، وعندما يتحدث مع الأطفال تجسد كلماته الحنان في ملامحه.

طارق لطفي مخلوق للأدوار الصعبة المركبة المعقدة، ينقل للمشاهد عقدها بانسيابية ويسر، في العام الماضي جسد لنا شخصية الشيخ رمزي الارهابي كما لو كان يجسد شخصية سيد الإرهاب في الزمن المعاصر في مسلسل (القاهرة: كابول)، أيضاً للمبدع عبد الرحيم كمال، وهذا العام نجد أمامنا الشيطان وقد أطل بملمح إنسان، وقد اختار طريقة كلام كما الشيطان الذي يحدد أهدافه ويختار فريسته ويدرك كيف يحدث الفتنة بسهولة ويسر.

مي عز الدين .. تعيد اكتشاف نفسها في هذا المسلسل

مي عز الدين، مولود فني جديد في هذا المسلسل، صحيح أنها قدمت بطولات مطلقة من قبل وهذا العام تقدم دوراً محدود المساحة، ولكنه عظيم التأثير على المشاهد وعليها كفنانة، وسيفتح لها أبواباً مختلفة وجديدة في المستقبل.

الفنان الكبير رياض الخولي أكد أنه كبير في التمثيل كما أنه كبير الجزيرة الحريص عليها، ومحمود البزاوي، هو الباطل والبطلان ذاته، مختلف عن كل أدواره السابقة وجديد ومتجدد، ووفاء عامر كبيرة التأثير رغم محدودية الدور، ومحمد جمعة يرسخ مكانته.

رياض الخولي .. كبير في التمثيل كما أنه كبير الجزيرة الحريص عليها

كلمات التتر التي أبدعها ابراهيم عبدالفتاح لخصت رسالة المسلسل في كلمات شاعرة معبرة أداها الفنان الكبير علي الحجار لينقلنا بإحساسه إلى قلب الجزيرة التي خيم عليها الغمام على أنغام الملحن التفرد شادي محسن ليكون التتر عنوانا لتميز المسلسل.

صدق الرئيس عبدالفتاح السيسي عندما تحدث مع الكاتب عبدالرحيم كمال خلال مداخلة تليفزيونية في أغسطس الماضي واصفاً أعماله وفكره بالرقي ومبدياً إعجابه بحديثه عن تجديد الخطاب الروحي، مؤكداً له دعمه في أي عمل يقدمه ومطالباً إياه وغيره من المبدعين بالتركيز على قضية الوعي بما يحصن شبابنا ضد أي تيارات تستهدفهم، وبعد هذه المداخلة توقع البعض أن يقدم عبدالرحيم عملاً مباشراً عن الوعي، بينما هو يدرك جيداً أن الفن غير المباشر أكثر وأعظم تأثيراً، وها نحن نعيش كل يوم وقتاً يمر كما الثواني من عظمة ما يقال في المسلسل الذي يتضمن رسائل عن الوعي ويدعونا للسمو بأرواحنا ويحذرنا من مصادر الفتنة الخارجية التي تستهدفنا، ومصادر الفتنة الداخلية من أهل الباطل وتجار الدين الذين يعيشون بيننا، وفي حالة الانقياد وراءهم سنخسر وطناً أضاءت حضارته ربوع العالم في أزمنة التخلف والجهل والظلام.

[email protected]

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.