رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمد شمروخ يكتب : كان مالى ومال عمر خيرت؟!

كورساكوف

بقلم : محمد شمروخ

كانت صدمة شديدة عندما عرفت في فترة اهتممت بها بسماع الموسيقى، أن الألحان الموسيقية التى اقترنت بألف ليلة وليلة، لم تكن لمؤلف موسيقى عربى ولا حتى شرقي، على الرغم من أن الموسيقى تكاد تجسد عالم (ألف ليلة وليلة) بشخوصه .. بأحداثه بأجوائه الساحرة، لكنى وقفت إجلالا لذلك العبقرى الروسي (نيكولاى ريمسكى كورساكوف – 1844-1908)، الذي تشرب بروح الشرق من فرط عشقه لألف ليلة وليلة كإحدى درر الأدب الإنسانى في كل العصور.

لكن مع ذلك كان ينتابنى الشعور بالغيرة كلما سمعت مقطوعة موسيقية لبيتهوفن أو موتسارت أو تشايكوفسكى، ألا من موسيقي عربي أو مصري؟!، فكيف مع وجود تراث موسيقى بثراء الموسيقى العربية المترعة بالروحانية، لا يمكن الإشارة إلى مؤلف موسيقار ينتج لنا موسيقى مجردة بعيدا عن الأغانى والملاحم الشعرية والاستعراضات الراقصة.

ألف ليلة عولجت بموسيقى أجنيبة

فليس سوى مقطوعات لا تكاد تذكر وفي نغمات السلام البلدى ومقطوعات قصيرة للنغم في التراث الشعبي بالمزمار أو الربابة مع موسيقى الآلات النحاسية في الأفراح والجنائز والاحتفالات الرسمية والعروض العسكرية، وأحيانا منفردة بمعزوفات على القانون أو العود أو الكمان وأحيانا مع الطبلة، لكنها لا تشفع ولا تشبع ولا يمكن أن تشكل قاعدة للتأليف الموسيقى المجرد من الكلمات.

كيف وهناك أسماء عملاقة أخرجت قرائحها أعذب النغمات منذ أن وضع أسسها محمد عبد الرحيم المسلوب في القرن التاسع عشر وحتى الآن مما يضيق المقام بذكرهم.

كانت هناك محاولات لكنها لم تثبت في الذهنية العربية التى دائما ما كانت تقرن اللحن بالكلمة، مع أن الشعر العربي أساسا هو نغمات تشكلت في عروض بحور الشعر، لكن في النهاية بقيت الموسيقى لدينا لصيقة بالكلمة، أما الذين يريدونها موسيقى خالصة فلم يكن أمامهم إلا الموسيقى الغربية بكل مدارسها.

لكن أستطيع بارتياح أن أقرر أن هذا الوضع كان قائما حتى بزوغ نجم موسيقار مصرى اسمه (عمر خيرت) منذ عدة عقود.

لقد ركب عمر خيرت الصعب عندما أراد ترسيخ الموسيقى كتأليف مجرد بعيدا عن الأغنية التقليدية، ولم يكن هذا التحدى الوحيد، فما أيسر أن تقوم بتأليف موسيقى خالصة، وقد فعلها بعضهم ولكنها لا تكاد تذكر أو تلفت الانتباه.

لكن عبقرية خيرت الحقيقية في نجاحه أن تصبح لهذه الموسيقى حفلات يكتظ فيها (السميعة) الذين يذهبون لأول مرة على حفل ليس فيه مطربون أو مطربات بل ويحرصون على الحضور كملمح أساسي في حياتهم وليس مجرد مظاهر كمالية لزوم الوجاهة.

عمر خيرت في عزف شجي في إحدى حفلاته

لم تكن موسيقى خيرت مزجا بين الغرب والشرق أبدا، فالمزج ليس مجرد خلط  ونسب ومقادير كطبق اليوم، لكن أصالتها تتجلى في أن لها خصوصيتها المعبرة عن الشخصية المصرية، ففيها رائحة وطعم مصر بأفراحها وأشجانها وماضيها ومستقبلها وآمالها وإحباطاتها.

يحق لنا إذن أن ننظر لعمر خيرت كمؤسس ورائد لترسيخ هذا الفن المهدر في أجندة الفن الموسيقى المصري والعربي، بل حتى في الأغانى التى لحنها لبعض المطربين، ظهرت موسيقاه وعليها بصمته الخاصة ولو جردتها من الكلمات لحصلت على موسيقى خالصة دون أى شعور بالنقص.

الحق أن هناك ملحنين مصريين وعرب لو جردت ألحانهم بعيدا عن الأغانى لحصلت على مقطوعات موسيقية تضاهى الموسيقى العالمية، على سبيل المثال لا الحصر منهم (السنباطى في الأطلال)، و(القصبجي في قلبى دليلى)، و(فريد الأطرش في يازهرة في خيالى)، و(عبد الوهاب في يا عاشق الروح)، و(بليغ في فات المعاد) وستطول القائمة، لكن (خيرت) تجاوز ذلك إذ جعل اللحن له الأولوية.

ورغم أن محاولة (خيرت) امتدت لفترة طويلة منذ أن طلبت شرائط موسيقاه المجردة من محلات الكاسيت، وكان العربي الوحيد الذي تطلب موسيقاه من محلات الكاسيت.

وأول سماع لى عن عمر خيرت كان في منتصف الثمانينات حين كنت أدرس الفلسفة في كلية الآداب جامعة عين شمس وطلب منى أحد الزملاء وكان مكفوف البصر أن أصطحبه إلى ميدان العباسية لشراء شريط كاسيت لعمر خيرت

– ومن هو عمر خيرت؟!

– مش عيب طالب فلسفة وعامل فيها مثقف ولا تعرف عمر خيرت؟!

وفي محل الكاسيت كان تعليق البائع لصديقى بمجرد أن طلب الشريط: (ده واضح إنك حبيب جدا يا أستاذ).

وتحت إصراري للتعرف على موسيقى هذا الذي نزلنا مخصوص لشراء موسيقاه في وقت سيطرت فيه موجة أغانى الثمانينات بظهور جيل المطربين الشباب أيامها، ذهبنا إلى غرفتى بالمدينة الجامعية المجاورة لمقر الجامعة، ومع دوران الكاسيت بدأ الحنين القديم لمعاودة سماع الموسيقى يعود مع بداية ذوبان شعور الغيرة على الموسيقى الشرقية، فها هو موسيقار مصري يؤلف موسيقى مجردة فلم تعد (مونامور) وحدها المقطوعة الموسيقية المنفردة بآذان ذلك الجيل.

لكن للأسف ابتعدت مع تيارات الحياة الجارفة عن هذا الاهتمام، حتى استجبت أخيرا لإلحاح زوجتى خلال الأسبوع الماضي بأن نحضر حفلة عمر خيرت وكنت عازفا عن ذلك حتى عاودنى الحنين لسماع الموسيقى النظيفة، وكان أن حضرت بالفعل الحفل في المسرح الكبير بالأوبرا وأكثر ما أعجبنى هو أن المسرح امتلأ لآخر مقعد، ذلك لأن تذاكر حفلات عمر خيرت تنفد فور طرحها للبيع!.

ومع نهاية الحفل لم يكن ارتياحى فقط لعودة الاستماع والاستمتاع بالموسيقى في حفلة عمر خيرت مع الفرقة الموسيقية بقيادة المايسترو ناير ناجي، لكن لأنى لمست بالفعل تجاوبا متبادلا بين الجمهور وعمر خيرت والفرقة بعازفيها وكان حضور العازفات مميزا فيها.

لكن لابد من تنغيص لا يمكن تجاهله قادم من غريزة الصحفي الباحث عن المتاعب وجاء في عدة أسئلة:

أولا: لماذا يبدو الجمهور من مستويات ثقافية واجتماعية واقتصادية تنتمى للشرائح العليا للطبقة الوسطى؟!

ثانيا: كما حرر الموسيقى من الأغنية.. لماذا لا يتنقل خيرت بين محافظات مصر ليحيى حفلاته في ربوعها ويتحرر من مركزية القاهرة الثقافية؟!

ثالثا وهو الأهم: كيف لا نجد تجارب أخرى من موسيقيين على خطى عمر خيرت لتنشأ مدرسة موسيقية مصرية خالصة؟!

رابعا: استكملا لثالثا، فأنا على ثقة أن هناك تلاميذ في مدرسة عمر خيرت، فلماذا لا يتم تسليط الأضواء عليهم لإكمال أركان المدرسة؟!

خامسا: ألا من خطة لنشر موسيقى مصرية راقية بعيدا عن مخملية الأوبرا؟!

سادسا وأخيرا: ترى هل يمكن وضع بند ولو نصف سنوى في ميزانية الأسرة المصرية من ولو في الطبقة المتوسطة، لإتاحة حضور عائلي لمثل هذه الحفلات؟!.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.