رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

طفح على جلد المجتمع

بقلم : محمود حسونة

ليس من حق أحد أن يصادر حق الآخرين في الغناء، وأعتقد أن لكل إنسان تجربة أو تجارب في هذا المجال، فكلنا ندندن مع أنفسنا في أوقات الفرح وعندما يكون البال مرتاحاً والمزاج منضبطاً، وبعضنا تحلو له الدندنة وقت الضيق ويتخذ من الغناء وسيلة لتغيير الحالة النفسية، ولكن معظمنا يفعل ذلك مع نفسه أو مع المقربين منه، والغناء في العلن وأمام الناس جرأة لم تكن تتوفر إلا لدى أقل القليل.

بعد أحداث يناير 2011، وبعد أن خرج للشارع الثائر صاحب المطالب المشروعة، والضال عن طريق الصواب والباحث عن زحام يتوه وسطه، وبعد أن فقدت الدولة السيطرة على الشارع، ورفع الواعي والفاقد للوعي صوته مردداً كلمات (يعرفها) وشعارات لا يستوعب ما وراءها، وبعد أن منحت الأحداث للجميع حق التعبير عن الذات، انتشر طفح غنائي على جلد المجتمع  اختاروا له اسم (المهرجانات)، ويبدو أنه اسم على مسمى، فهو يتفوق على المهرجانات بمفهومها التقليدي صخباً ولا يقل عنها إثارة للجدل، ويخلق من الفوضى البصرية والسمعية والحسية ما لا يختلف عن مخلفات مهرجانات استهدفت ضرب الفن بدلاً من تكريمه ونالت من قيم المجتمع بدلاً من الارتقاء بها.

المهرجانات الغنائية جلبت أسوأ ما في قاع مجتمعنا ووضعته على قمته، لتغير كل القواعد وتعتدي على الموروث وتشوه الذوق العام وتقلب القيم وتجعل عاليها سافلها، ليجد كل متمسك بالرقي السمعي نفسه غريباً تائهاً، وتجبره على إعادة النظر للحاق بالقطيع حتى لا يجد نفسه وحيداً وسط مجتمع المئة مليون.

عندما قرر الفنان هاني شاكر نقيب المهن الموسيقية التصدي للظاهرة بعد أن تفاقمت وسلمت بها واستسلمت لها الجهات المعنية، قذفوه وتجاوزوا في حقه وتطاولوا على تاريخه الفني وشككوا في أهدافه من وراء قرار النقابة بعدم السماح لهذه الفئة بالغناء في مصر، والمريب أن المتصدين لهاني هم ممن ينبغي أن يتصدوا لأي إسفاف ويساهموا في حماية الذوق العام ويقاتلوا بالكلمة والموقف حتى يظل الفن وسيلة للارتقاء بالوجدان والسمو بالعقل وسلاحاً يقاوم الأفكار الهدامة والسلوكيات الغير سوية والظواهر السلبية.

خرج علينا رجل الأعمال متحدثاً بعنجهية الرأسمالي الذي يتوهم أن فلوسه تمنحه ما ليس حقاً له، وتنظيمه مهرجان للعري السينمائي يكفل له أن يفتي في الفن. ويبدو أن كل صاحب ذوق هابط وأذن ملوثة يريد أن يأخذ المجتمع معه إلى المستنقع  الغنائي الغارق فيه.

من المؤكد أن رجل الأعمال هذا لديه أهدافه الخبيثة من الاستقتال دفاعاً عن مغني المهرجانات، ويريد أن يروج لنمط غنائي يتناسق مع نمط الملابس العارية التي روج لها مهرجانه بعد أن اتخذ من السينما ستاراً لأشياء أخرى، ولكن ما نستغربه أن يغرق في نفس المستنقع نقاد مهمتهم الأساسية (نظرياً) مقاومة الغث وفضح صناعه، فهنا الكارثة خصوصاً أنهم اتخذوا من النقد وسيلة لتصفية حسابات رخيصة وابتزاز بعض الفنانين والترويج للهبوط والسعي لتدمير قيم المجتمع.

من يتابع أغاني المهرجانات منذ ظهورها على استحياء في بداية العقد الماضي، حتى تغولها وتمكنها من المجتمع وغزوها لفئات تختلف اجتماعياً وتتوافق ذوقياً، يجد أننا نتابع من خلالها مسلسلاً هابطاً تطل علينا من حين لآخر حلقة جديدة منه، وقد وصلت العقدة الدرامية لهذا المسلسل بعد قرارات نقابة المهن الموسيقية منع التصريح لتسعة عشرة مغن لها، وتبعتها حلقة (تمور وحليب) لا (خمور وحشيش)، وهى الحلقة التي تؤكد أن الابتذال اللفظي حق للمصريين فقط وأن لغيرهم ألفاظ أكثر رقياً، فلكل مجتمع ما يناسبه ولكل أرض ما يتوافق مع حدود (طهارتها) كما يقولون، وبعد هذه الحلقة (غير الطاهرة) أطلت علينا حلقة (سوستة وشيماء)، والتي روج لها مذيع كنا نتخيله عنوان للجدية في الطرح الموزون والهادئ للقضايا الكبرى، وفوجئنا به ينقلب على نفسه وعلى تاريخه  سواء كان ذلك بإرادته أو رغم أنفه ليصبح مذيعًا للقضايا الصغرى وعنواناً لإثارة الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي.

وصلنا إلى قمة العقدة الدرامية في مسلسل (المهرجانات) الهابط، وانقسم المجتمع إلى فئتين، فئة لا تتخيل أن مجتمع أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم ونجاة والسنباطي والقصبجي وبليغ، يمكن أن يصبح مجتمع كزبرة وسوستة وحمو وشاكوش، وفئة أخرى تعتبر أن الغناء حق للجميع وأن مقاومة هذا اللون فيه مصادرة لحرية مستمعيه وسلب لحق مغنيه، وكأننا نعيش في مجتمع مفتوح على مصراعيه، يعطي كل الحرية لأي عابث به هادم لذوقه مشوه لرصيده القيمي والحضاري الممتد في عمق الزمن البعيد والصانع التاريخ الإنساني.

العقدة بلغت الآن الذروة، والمشاهدون في الخارج يتفرجون علينا، والذين يريدون أن يأخذوا موقعنا الحضاري والفني يدعمون الهابطين منا ويروجون لهم ويشجعونهم على مزيد من الخلاعة، ويقدمون لهم العطايا والهدايا، والكل ينتظر نهاية هذه الملهاة الدرامية لمعرفة ما إذا كان الغث سيضرب الثمين بالقاضية أم أن الثمين لا تزحزحه العواصف مهما كانت قوتها، بما لديه من أصالة صلبة عابرة للأزمات ومتجاوزة لكل التحديات، وبالتالي فإن المهرجانات لون سيأخذ وقته ويرحل وستأتي بعده ألوان أخرى تشبههه وتشبه الخليع (خافت الصوت) الذي مر بأشكال وألوان مختلفة في الماضي البعيد والقريب.

الغناء كمجمل الفن في مصر لا يختلف عن الدولة المصرية، يتعرض لمحن في بعض الأوقات، ولكنه بفعل إرادة هذا الشعب الخلاق سرعان ما ينفض عنه الغبار ويستعيد مكانه ومكانته ويعود أكثر إبهاراً وتألقاً، مثل المحروسة التي تعرضت للكثير من الكبوات عبر التاريخ ولكنها تجاوزتها جميعا وانتصرت على المتآمرين عليها وأحبطت المتربصين بها،  وآخرها كبوة ما قبل ثورة 30 يونيو لتعود اليوم أم الدنيا وحديث الدنيا.

[email protected]

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.