رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

عائلة جيجي .. عندما تكون الدراما في خدمة قضايا المجتمع !

كتب : محمد حبوشة

تعد الأسرة هى النواة الأساسية في بناء المجتمع؛ فعليها يعول تقدم هذه المجتمعات وتخلفها، فالأسرة السوية التي قوامها الحب والتفاهم والاحترام؛ مصدر خصب لنشء صالح يسهم في تنمية المجتمع وتطوره، وقيادة مستقبله نحو الأمن الشامل والاستقرار والطمأنينة والرخاء، وعلى الرغم من أهمية هذا الدور؛ إلا أنه في بعض الأحيان قد يحدث خللا بين أفرادها يعوق مسيرته ويعمل على تفكك منظومتهـا وانهيارها، وهو ما ينعكس سلب على الصحة النفسية والجسدية لأفرادها ويكون سببا للعزلة والانطواء عن المجتمع، وجدير بالذكر أن مواقع التواصل الاجتماعي تعد أحد أهم الأسباب التي أحدثت خللا في العلاقات الأسرية؛ من منطلق دورها الرائد في حياة الفرد اليومية.

وهو خلل واضح يتمثل في الاستحواذ على حيز كبير من وقت الفرد لإشباع احتياجاته الاتصالية، والتي يأتي في مقدمتها مطالعة الأخبار والتسلية والترفيه والتواصل مع أفراد أسرته والمجتمع المحلي والدولي، حيث تصفح الفـيس بـوك،ومشاهدة اليوتيوب YouTube، وإطلاق التغريدات على التويتر Twitter ومشاهدة آلاف الصور التي يحويها الإنستجرام Instagram، يجد الفرد نفسه في نهاية اليوم أنه قضى الكثير من وقته مستقبًلا ومستهلكًا لما تقدمه تلك المواقع.

عائلة جيجي .. عندما تكون الدراما في خدمة قضايا المجتمع !
الترند .. هوس اجتاح رواد التواصل الاجتماعي

صحيح أن وسائل التواصل الاجتماعي في جانبها الإيجابي تؤدي دور بارزا في تعزيز التواصل العالمي بين أفراد الأسرة البعيدين عـن بعضهم البعض، لكن من ناحية أخرى فعلى الجانب السلبي لتلك الوسائل تتضح الانعكاسات الخطير لتطبيقات التواصل الاجتماعي على الأسرة، بالاغتراب وإدمان الإنترنت، خاصة مع الفراغ الكبير الذي يعاني منه الأفراد كبارا أم صغارا منها، ومن ثم تغيرت معادلتهم ورؤيتهم لأنماط التواصل، بحيث أصبحوا جزء من العالم الواقعي، واعتمادهم على العالم الافتراضي الذي تقدمه لهم تلك المواقع، والذي يوفر لهـم الحرية المطلقة لعرض أفكارهم ومشاعرهم دون قيود للمكان أو الزمان، أو حتى لتقاليد المجتمع الذي ينتمون إليه أو حتى صعوبة في الاستخدام؛ وهو ما يؤدي بالضرورة إلى عـزل الأفراد عن بعضهم البعض وتفكيك العلاقات بينهم، وعزلهم وتوحدهم مع هـذا العالم  الافتراضي ليصل إلى الوحدة الأساسية للمجتمع ألا وهى الأسرة والتي بتأثرها سلبا يتأثر المجتمع كله وينهار.

ولعل هوس ركوب الترند الذي ناقشته حكاية (عائلة جيجي) في خمس حلقات ضمن سلسلة (وراء كل باب) يعد من أخطر وسائل إدمان الإنترنت وأكثر ها سلبية على الأسرة والمجتمع، وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي التي يسعي من خلالها بعض الأفراد إلى التربح بطرق غير قانونية، كما جاء في ثنايا تلك الحكاية أو المسلسل الذي يناقش قضايا عديدة منها العلاقات القائمة على الاستغلال، حيث نجد (ملك/ هدى الإتربي) خطيبة (يونس/ إسلام جمال) كل ما يهمها تصوير إعلانات لنشرها عبر حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، دون النظر لأي شيء آخر من علاقات إنسانية، ارتبطت بأكثر من شخص واشترك جميعهم في كونهم مشاهير على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن القضايا المهمة التي طرحها المسلسل عن الشخصية المادية، ممثلة في الطفلة (شهد) التي  أصبح كل اهتمامها كيف ستكسب أموالا أو تحصل على هدية ثمينة، فقدوتها شقيقها وشقيقتها الذين أصبحا مشاهير سوشيال ميديا ويحصلان على أموال كثيرة، وتبحث هى أيضا عن الشهرة والكسب السريع.

عائلة جيجي .. عندما تكون الدراما في خدمة قضايا المجتمع !
الشباب رفع شعر الترند لتحقيق حلم الشهرة والفلوس

وبالطبع تعكس طبيعة حكاية (عائلة جي جي) تلك الآثار الوخيمة التي تأتي جراء الانزلاق إلى هوس الترند الذي يحدث صخبا وضجيجا يشبه إلى حد كبيرا أجواء الرواية الأشهر فى السرد الأمريكى (الصخب والعنف) للروائى العالمى وليم فوكنر، والذي يدعو للتساؤل هنا: هل كان يمكن لفوكنر أن يختار عنوانا أشد وطأة من ذلك لو كان بيننا الآن، وعاش زمن الترند وعوالمه الأشد صخبا، ففي روايته التي تفوح بالصخب والعنف، يقدم فوكنر عالما ممتدا من اليأس والهزيمة، والصعود أيضا، من مغالبة القبح واستمرائه فى الوقت نفسه، عالم متسارع وموتور، ولحظات زمنية متباينة، يختارها فوكنر بعناية، وينتخبها من عمر الحياة الأمريكية فى مطلع القرن العشرين، حيث كل شيء يتجه صوب وجهة جديدة.

تتداخل الأزمنة وتتقاطع فى الحكاية الموزعة على أصوات سردية ثلاثة، يرويها (بنجي، وكونتن، وجاسن)، يبدأ فوكنر روايته بحكاية (بنجي) المعتوه الذى خذلته الحياة، وضن عليه العالم بقدر ولو يسيرا من المحبة، يستكشف (فوكنر) الداخل الإنسانى الثرى لبنجى الذى لا يملك القدرة على الكلام، منتقلا منه إلى رواية الحكاية عبر عينى بطله (كونتن)، المثالى الحالم، الذى يسكنه شعور متعاظم بحتمية الحفاظ على شرف العائلة وقدسيتها، ويدخل فى دوامة من الإنكار النفسى هربا من سطوة العلاقة الجسدية التى جمعت أخته بشاب آخر، ينتحر (كونتن)، الرومانتيكى المولع بشرف عائلته فى الجنوب، ويبقى (جاسن) المحبذ لكل ما له صلة بالبيع والشراء، والذى يعد نموذجا إنسانيا دالا على قيم الصعود الرأسمالى فى أشد درجاتها وطأة.

وبين الشخصيات الثلاث وتقاطعات الزمن والجغرافيا السردية المتعددة والمغامرة اللغوية الهائلة والغوص عميقا داخل النفس البشرية تتحرك رواية (فوكنر) لترسم عالما على شفا الجنون والتداعي، الصخب والعنف، متوتر بطبيعته، يحوى هوس الوجود البشرى بذاته، وحضوره الصاخب المثقل بالفوضى والألم والسخرية المضمرة أيضا، وهو ما يشبه إلى حد كبير ما شكلته عوالم السوشيال ميديا من سياق يخصها، أصبح فيه أكثر من (بنجى وكونتن وجاسن)، وأصبح فيه طبقة من المهيمنين على هذا الفضاء، وطبقة أخرى من التابعين، ومجموعات قليلة تشارك بما تعرفه، واللافت حقا هو تحول الفضاء الافتراضى فى كثير من مظاهره إلى أداة للتكسب المادي، أو الانتقام السياسي، أو التشويه العمدي، دون وازع من ضمير أو منطق أو تعقل، فالمهم هو ركوب الترند، والالتحاق بالاتجاه السائد، ومحاولة فرض نمط بعينه فى الحياة والتفكير، بل وفى الموقف السياسى والأيديولوجي.

عائلة جيجي .. عندما تكون الدراما في خدمة قضايا المجتمع !
بوستر مسلسل (عائلة جيجي)

هوس التربح المادى من المشاركة فى السوشيال ميديا وصل إلى ذروته كما عبرت عنه حكايه (جيجي) حتى أصبح نموذحا وأسلوب حياة أسرته تشتت وغرقت في براثن صناعة فيديوهات من شأنها أن تركب الترند، وذلك على حساب الأسرة التي انهارت قيمها الأخلاقية وهجر الابن الجامعة بعد أن جرب دخول آلاف الدولارات إلى حسابه البنكي ،وتخلت البنت عن حبها الكبير لزوجه حين رأت أن مستقبلها كله أصبح مرهون بفيديوهات الترند حتى وقعت في المحظور بعمل فيديو في أحد المواقع المشبوهة، واللافت للنظر أكثر في تلك الحكاية أن يتعرض المسلسل لقضية محورية يعاني منها المجتمع حاليا، وهى ما تسمى بـ (البلوجر)، التي تحصد إعجاب المشاهدين على مواقع التواصل الاجتماعي، والبعض منهم يقدم محتوى غير مفيد لجذب انتباه المشاهدين، ويستحوذون بها على ثقتهم، فهدفهم الرئيسي بعيدا عن المحتوى الهادف، هو زيادة عدد المشاهدة والمتابعين، لكسب المال بأسرع طريقة وبأي ثمن فأصبحت فئة (البلوجر) تزيد كل يوم عن الآخر.

وكل ذلك أدى بالضرورة إلى مايسمى بالانحراف الاجتماعي بشكل عام وبمفهومه الشامل والذي يشير إلى إلي أنماط الفعل التي تمتثل للمعايير والقيم الجديدة التي يعتنقها أغلبية أعضاء (عائلة جيجي)، ويدل لفظ (انحراف) هنا على مخالفة أي من الأنماط السلوكية السوية والمرغوبة اجتماعيا سواء كانت تلك الرغبة بنص القانون أو العرف أو القيم الثقافية السائدة وهكذا فإن الانحراف من المنظور الاجتماعي هو السلوك المخالف لما ترتضيه الجماعة، والانحراف هو إتيان أي فعل لا تقبله النسبة الغالبة من أفراد الجماعة كما مثلتهم الجدة (أصيلة) التي لعبت دورها (ليلى عز العرب)، فقد كانت بمثابة الضمير الحي في تلقينهم جميعا دراسا قاسيا حول مخاطر ما يفعلونه من الانحرافات القانونية وغير القانونية، وأن السبب في الأخذ بالانحرافات غير القانونية جاء نتيجة غياب العادات والأعراف والتقاليد والقيم الأخلاقية التي لو زاد الاهتمام ببعض منها فإنها ترقى إلي مستوى القانون الذي يواجه أفعالا خطيرة على أمن (عائلة جيجي) وعلى حياة وأعراض أفرادها أو مقدساتهم ومكتسباتهم ومستقبلهم أو تطلعهم العام، لذا فقد شجبت هذه الأفعال وطالبت بمكافحتها لأنه الأمر هنا يتعلق بأفراد الجماعة ومعتقداتهم ووجهة نظرهم للأنماط السلوكية غير السوية وما يجب أن يجرم منها.

عائلة جيجي .. عندما تكون الدراما في خدمة قضايا المجتمع !
ليلى عز العرب .. الجدة(أصيلة) التي مثلت الضمير الحي لإنقاذ (عائلة جيجي)
عائلة جيجي .. عندما تكون الدراما في خدمة قضايا المجتمع !
نادين .. الأم اللاهية التي خضعت لابتزاز أبنائها
عائلة جيجي .. عندما تكون الدراما في خدمة قضايا المجتمع !
إسلام جمال .. الابن الذي أهمل دراسة الهندسة لأجل حفنة دولارات
عائلة جيجي .. عندما تكون الدراما في خدمة قضايا المجتمع !
هند عبد الحليم .. البنت التي ضحت بحبها من أجل الترند
عائلة جيجي .. عندما تكون الدراما في خدمة قضايا المجتمع !
هدى الإتربي .. الشريرة التي أوقعت (عائلة جيجي) في الفخ
عائلة جيجي .. عندما تكون الدراما في خدمة قضايا المجتمع !
حتى الطفلة الصغيرة لم تسلم من العزف على أوتار الابتزاز

يذكر أن حكاية (عائلة جيجي) من بطولة (نادين، إسلام جمال، هند عبد الحليم، هدى الإتربي، ليلى عز العرب)، من تأليف محمد الشواف، وإخراج منال الصيف، وقد نجح فريق العمل كله في صناعة حالة من الدراما الاجتماعية الهادفة في ثوب كوميدي رشيق لايخلو من رسائل تستنكر حالات الهوس بالترند، وتنبه إلى خطورة استخدام الانترنت في اللهو واللعب والعبث والجري وراء المكسب السريع على حساب قيم المجتمع التي تنهار يوما تلو الآخر، لو أننا ظللنا أسرى مواقع التواصل الكاذبة والمدمرة للكيان الأسري الذي تشتت وتشرزم في ظل وجوده الفعلي من خلال الوقع الافتراضي الذي ضرب منظومتنا الخلقية في مقتل طالما زاد لهثنا وراء ركوب الترند.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.