(حجاب جيهان السادات)
بقلم : محمد شمروخ
عندما وصف الرئيس الراحل السادات أحد الدعاة في خطاب شهير له بأنه “مرمى زي الكلب في السجن” كان سبب هذا الغضب الذي جعل السادات – رحمه الله – ينفلت من لسانه هذا الوصف أن هذا الداعية هاجم السيدة جيهان السادات لأنها ذهبت لافتتاح مركز خدمات اجتماعى ملحق بمسجد بالإسكندرية وهى “متبرجة”.
أي أنها تكشف شعرها وترتدى فستانا وليس عباءة وحجاب على ما بدا يظهر على استحياء حينئذ في زي بعض النساء ثم ما لبث بعد ذلك وأن تحول إلى القاعدة العامة في اللبس!
في تلك الأثناء كان لفظ “متبرجة” غريبا إلى حد كبير، إذ أنى وكنت أيامئذ في أولى إعدادى وأعيش في أعمق أعماق الصعيد، لم أر سيدات أو فتيات يرتدين الحجاب إلا نادرا، بل كانت شوارع مدينة نجع حمادى التى تتبعها قريتى، تشهد أرتالا من الفتيات والسيدات من فئات وأعمار مختلفة يرتدين مثل ما ترتديه جيهان السادات، فقد كانت محلات وشوارع المدينة في ذلك الوقت، لا تقل جمالا عن شوارع مصر الجديدة، نظافة وإضاءة وتشجير، وكله كوم وأناقة السيدات والفتيات كوم تانى!.
كان هناك محلات كوافير حريمي وبوتيكات تعرض آخر صيحات الموضة في الأزياء والعطور وأدوات الزينة، فقد كانت نجع حمادى مدينة صعيدية ذات طابع خاص جدا، جعلها تنافس عواصم المحافظات في مصر كلها وليس في الصعيد وحده، بل ولعلها تفوق بعضها!.
كنت تسير في الشوارع الرئيسية في تلك المدينة فتشاهد بعينيك، ربات بيوت، طبيبات، مهندسات، مدرسات، تلميذات إعدادية، طالبات ثانوىة، عاملات، كلهن يمشين في الشوارع والطرقات بشعر مكشوف وملابس أنيقة، جيبات وبنطلونات وفساتين، في الوقت الذي كانت سيدات قرى الريف التابعة للمدينة يسرن مرتديات “البردة” دون أى نفور بين هذا وذاك، والبردة هى عباءة حريمي سوداء توضع فوق الملابس وتغطى المرأة وجهها بطرفيها عندما تمر على رجال غرباء وتشبه الملاية اللف إلى حد كبير ولكنها أكثر إحكاما ومع ذلك كانت كثيرات من سيدات وبنات القرى يرتدين تحت هذه البردة فساتين تنافس في أناقتها فساتين بنات البندر، أما فورم وقصات الشعر، فتفوق تسريحات بنات مصر وإسكندرية كمان.
يعنى السيدة جيهان السادات لم تكن مختلفة عن بقية سيدات مصر حتى في الصعيد الجوانى، فالحجاب بالشكل الحالى الذي نراه، لم يكن منتشرا كما هو الآن.
لا يعنى ذلك اعتراضا منى أو موافقة، فتلك قضية أخرى، فأنا هنا أتحدث عن الأجواء المحيطة بتلك الفترة، فتلك كانت طبيعة المجتمعات ولم يكن هناك شعور بأن التى تسير كاشفة شعرها يمكن أن توصف بتلك الصفات المزرية والمهينة “متبرجة أو فاجرة أو مشكوك في دينها” فقد كانت الطبيبات أو الممرضات في المستشفى الأميري وفي العيادات والصيدلانيات في الأجزخانات والمدرسات في المدارس من ابتدائي لثانوى والموظفات في المصالح الحكومية والبائعات في المحلات التجارية الكبرى والصغرى، كلهن على مثل الهيئة التى تظهر عليها جيهان السادات.
أذكر أنه ذات يوم كانت المدرسة الفاضلة “أبلة محفوظة” تدرس لنا الدين وتحفظنا وهى تقرأ في خشوع قصار السور ونحن في أولى ابتدائي وكانت كاشفة شعرها مثلها مثل بقية “الأبلوات” دونما أي شعور بتقصير.
وانتظر لحظة، فقد كان أيامها الشيخ كشك ينتقد كل شيء في خطبه الرنانة ومع تشدده وسلاطة لسانه – ربنا يسامحه ويسامحنا – حتى تحول منبره إلى منصة للسب والقذف، فلم يكد يفلت منه أحد من المشاهير سياسيين وكتاب وفنانين وكان ينتقد في جراءة، رئيس الجمهورية نفسه ومع ذلك لم نسمعه يأتى بسيرة السيدة جيهان السادات وأنها متبرجة، حتى عندما انتقد السيدة أم كلثوم كوكب الشرق “مع ما يقال عن إنه كان من عشاق صوتها سرا” كان نقده منصبا على كلمات أغنية أنت عمرى وقولها “خدنى فى حنانك خدنى” ولم يلتفت إلى أنها لا ترتدى الحجاب!.
ويمكنك أن ترجع قبل تلك الفترة بحوالي 15 سنة تقريا لخطاب شهير للزعيم جمال عبد الناصر وهو يحكى ساخرا عن طلب مرشد الإخوان منه أن يأمر بتحجيب كل سيدات وفتيات مصر بصفته الحاكم للبلاد، فما كان من عبد الناصر إلا أن ذكره بأن ابنته الطالبة في كلية الطب لا ترتدى الحجاب مع أنها “ابنة مرشد الإخوان المسلمين” وقال له: “إذ كنت أنت مش قادر تلبس بنت واحدة إللى هى بنتك طرحة، عايزنى أنا ألبس 10 مليون طرح في البلد؟!”.
فلم نر في جيهان السادات إلا ما رأيناه في طبيبة المستشفى وناظرة المدرسة ومدرسة العلوم ومفتشة المواد الاجتماعية في القرى والمدن على السواء، فقد كان حصول المرأة على شهادة تعليمية فى القرى يبيح لها أن تسير بدون “بردة” ولا يعترض أبوها ولا عمها ولا زوجها بل يشعرون باعتزاز أن ابنتهم متعلمة!.
ورغم تشدد الصعيد المشهور مع المرأة، إلا إنى أدعوك لأن تقرأ ما كتبته الكاتبة الصحفية الكبيرة الأستاذة عبلة الروينى عندما زارت لأول مرة قرية زوجها الشاعر العظيم أمل دنقل في مركز قفط جنوب محافظة قنا، فهى تحكى أن عم أمل دنقل وكان عمدة القرية متقبلا في رحابة صدر لشكل ملابسها القاهرية، بل وكان يعترض على تشدد أمل دنقل معها عندما كان يصر على أن تركب عربة تنقلها من بيت إلى آخر على مسافة لا تستدعى عربة لكن أمل شاعر الحرية كان يصحو أحيانا داخله “الصعيدى صاحب العقل المقفل” تجاه زوجته التى كانت ترتدى البنطلون والبلوزة خلال زيارة قصيرة إلى قريته.
فلفظ “تبرج” حتى لو استخدم في نطاق ضيق، لم يكن يحمل حنقا ولا إهانة، فقد كان الضمير الجمعى متقبلا لسفور المرأة من الناحية الاجتماعية ولا يمكن لأحد أن يتهم الضمير الدينى بأنه كان نائما، بل كان متسامحا يرجو العفو حتى مع المخالفات القليلة وغير المتعمدة لبعض التعاليم.
بل لم يكن الرئيس السادات نفسه إلا واحدا من أبناء هذا الشعب وكان دائما ما يقرن اسمه بالرئيس المؤمن وكانت علامة الصلاة واضحة على جبينه مع حرصه على نقل أدائه صلوات الجمع والعيدين على الهواء مباشرة من مساجد مختلفة حتى أن خصومه من الشيوعيين شددوا من النكير عليه ورأوا في ذلك تشددا دينيا شجع الجماعات المتطرفة التى لم يعجبها في السادات أنه لا يقيم حدود الله ولا يحكم بالشريعة وأنه يشجع على التبرج!.
وأسباب كثيرة كانت وراء انتشار الحجاب بعد ذلك، ولست هنا بصدد التعرض لها، لكنه كان في البداية على شكل إيشارب يغطى الرأس والعنق ثم لم يقف الأمر عند ذلك، فظهر الخمار الذي ينسدل على الصدر حتى وسط الجسم، ثم طال الخمار حتى تحول إلى نقاب، ثم اقترن مع النقاب قفازان واللون الأسود هو الغالب، بالرغم من أن اللون الأسود ليس شرطا “ولكن أي حاجة تصيبك بالغم وتسودها في وشك والسلام” ثم ظهر شيوخ يدعون إلى ضرورة أن تخفى المرأة عينا وتظهر عينا لترى بها الطريق ثم جاء الشاش الأسود الشفاف ليخفى العينين، وذكر أحد شيوخهم المشهورين في الخليج أن “الماعز لو انتقبت لأغرت الناس بعينيها الظاهرتين من فتحة النقاب” ثم سمعت الأشد والأنكى من أحد شيوخهم يقر بأن خير حجاب للمرأة هو الجدار!
يعنى في النهاية لو ذهبت جيهان السادات لتفتح المركز الملحق بالمسجد وهى منتقبة، لربما اتهمها الشيخ الداعية بأنها برضه “متبرجة” وسيقتلون زوجها بسبب هذا التبرج!.
وفي النهاية.. رحم الله أول من تلقبت بسيدة مصر الأولى السيدة العظيمة جيهان صفوت رؤوف الشهيرة بـ”جيهان السادات” وغفر لها وأسكنها فسيح جناته.. قولوا آمين يا رب فإن منهم من تمنوا ألا تغفر لها ولا لنا، فاللهم اغفر لها ولنا.. قولوا آمين تانى.