رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

آهٍ يا بيروت

بقلم: محمود حسونة

بيروت، مدينة لا تشبه سواها من المدن؛ مدينة المشاعر والوجدان، الحب والحياة، الفن والإبداع، مدينة لها في قلوب المبدعين مكانة خاصة، وخلال النصف الأخير من القرن الماضي كانت مقصد المبدعين الذين يهربون إليها ليتحرروا من القيود المفروضة على إبداعهم، وليقولوا كلمتهم بصدق بعيداً عن حسابات ورغبات السلطويين والمتسلطين.

كثير من الشعراء العرب اختاروا بيروت مزاراً دورياً، وبين الجبال والسهول والوديان والبحر كتبوا أجمل إبداعاتهم، وكان شاعر الحب والحياة نزار قباني الأكثر عشقاً لبيروت وتعبيراً عن آلامها المبكرة، وفيها عاش أجمل سنوات الإبداع والألق، وهو الذي أطلق عليها لقب “ست الدنيا” عندما كتب فيها قصيدته “ست الدنيا يا بيروت “، وهو الذي طلب منها السماح خلال الحرب الأهلية التي كانت بداية الانهيار والانحدار في لبنان، من خلال قصيدته “سامحينا يابيروت”، وبكاها كثيراً وبحرقة، بنفس حرقة بكائه زوجته بلقيس التي كانت إحدى ضحايا تلك الحرب.

لعل تلك القصيدة هي التعبير الأصدق عن بيروت اليوم رغم أنها مكتوبة خلال الحرب، وإذا استعدنا أجزاء منها، نلمس عمق المعاني والمشاعر، وعبور الكلمة الصادقة للأزمان وقدرتها على التعبير عن مختلف الأزمات:

آهِ .. يا بيروتُ

يا صاحبةَ القلبِ الذهبْ

سامحينا إن جعلناكِ وقوداً وحَطبْ

للخلافاتِ التي تنهشُ من لحمِ العربْ

منذُ أن كانَ العربْ

طمئنيني عنكِ

يا صاحبةَ الوجهِ الحزينْ

كيفَ حالُ البحرِ؟ هل هم قتلوهُ برصاصِ القنصِ مثلَ الآخرينْ؟

كيفَ حالُ الحبِّ؟ هل أصبحَ أيضاً لاجئاً بين ألوفِ اللاجئينْ؟

كيفَ حالُ الشعرِ؟ هل بعدكِ – يا بيروتُ – من شعرٍ يُغنّى؟

ذبَحَتنا هذهِ الحربُ التي من غيرِ معنى

أفرغتْنا من معانينا تماماً

بعثرتْنا في أقاصي الأرضْ

منبوذينَ  مسحوقينَ  مَرضى  مُتعبينْ

جعلتْ منّا – خلافاً للنبوءاتِ

يهوداً تائهينْ

هذهِ المرّةُ .. لم يغدرْ بنا

جيشُ إسرائيلْ

لكنّا انتحرنا

إصفحي، سيّدتي بيروتُ، عنّا

نحنُ لم نهجركِ مختارينَ .. لكنّا قرِفنا

من مراحيضِ السّياسة

وملَلنا..من ملوكِ السّيركِ .. والسيركِ .. وغشِّ اللاعبينْ

وكفرنا..بالدكاكينِ التي تملأُ أرجاءَ المدينهْ

وتبيعُ الناسَ حقداً وضغينهْ..وبطاطينَ .. وسجاداً .. وبنزيناً مهربْ

آهِ يا سيّدتي كم نتعذّبْ

عندما نقرأُ أنَّ الشّمس في بيروتَ، صارتْ كُرةً في أرجلِ المرتزقينْ

ما الذي نكتبُ، يا سيّدتي؟

نحنُ محكومونَ بالموتِ، إذا نحنُ صَدَقنا

ثمّ محكومونَ بالموتِ، إذا نحنُ كذبنا

ماذا نكتبُ يا سيّدتي؟

نحنُ لا نملكُ أن نحتجَّ..أو نصرخَ..أو نبصقَ..أو نكشفَ عن خيبتنا..أو نتمنّى

أخرستنا هذهِ الحربُ التي من غيرِ معنى

طلبوا منّا بأن ندخلَ في مدرسةِ القتلِ..ولكنّا رفضنا

طلبوا أن نشطرَ الربَّ لنصفينِ..ولكنّا اختجلنا

إننا نؤمنُ باللهِ

طلبوا منّا بأن نشهدَ ضدَّ الحبِّ..لكنْ ما شهدنا

طلبوا منّا .. بأن نشتمَ بيروتَ التي قمحاً .. وحبّاً..وحناناً .. أطعمَتْنا

 طلبوا..أن نقطعَ الثديَ الذي من خيرهِ، نحنُ رضِعنا..فاعتذرنا

ووقفنا ضدَّ كلِّ القاتلينْ

وبقينا مع لُبنانَ سهولاً .. وجبالا.. وبقينا مع لُبنانَ جنوباً .. وشمالا

وبقينا مع لُبنانَ صليباً .. وهلالا.. وبقينا مع لُبنانَ الينابيعِ

ولُبنانَ العناقيدِ..ولُبنان الصبابهْ.. وبقينا مع لُبنانَ الذي علّمنا الشعرَ

وأهدانا الكتابهْ

آهِ يا سيّدتي بيروتْ

لو جاءَ السّلامْ.. ورجعنا، كالعصافيرِ التي ماتتْ من الغُربةِ والبردِ

لكي نبحثَ عن أعشاشنا بينَ الحُطامْ.. ولكي نبحثَ عن خمسينَ ألفاً

قُتلوا من غيرِ معنى

ولكي نبحثَ عن أهلٍ وأحبابٍ لنا

ذهبوا من غيرِ معنى

وبيوتٍ.. وحقولٍ.. وأراجيحَ.. وأطفالٍ

وألعابٍ.. وأقلامٍ.. وكُرّاساتِ رسمٍ

أُحرقتْ من غيرِ معنى

آهِ.. يا سيّدتي بيروتْ

آلام بيروت أوجعت نزار قباني بالأمس ولا زالت توجع المحبين لها المؤمنين بها مدينة الحياة والتي تحولت بفضل فساد ساستها من دمى القوى الخارجية إلى مدينة للموت والخراب.

بيروت جذبت، كما الشعراء والأدباء، أيضاً الفنانين، وفِي مسارحها قدمت أم كلثوم أجمل أغانيها، وعلى شواطىء بحرها وأنهارها لحن محمد عبد الوهاب أجمل أغنياته، وفيها عاش فريد الأطرش أجمل أيام العمر، وإليها هاجر معظم نجوم التمثيل المصريين بعد نكسة يونيو ١٩٦٧، وجعلوا من لبنان استوديو كبير لتصوير أعمالهم، حتى لا تتوقف صناعة السينما.

بيروت شهدت ولادة أهم البرامج التليفزيونية وحتى وقت قريب كانت معظم القنوات الخليجية تنتج أهم برامجها فيها مستعينة بكوادرها المبدعة في صناعة الإعلام.

بيروت، كانت مدينة الفن والإبداع والحياة وستظل، ستعود أقوى وسيرجع إليها كل الفنانين والأدباء العرب، الذين يرسلون إليها الأشواق ومشاعر الحزن والتضامن مع مصابها وآلامها؛ ولا شك أن مأساة تفجير المرفأ ستكون له مساحته في إبداعاتهم المقبلة، ولعل البعض بدأ يخط رؤيته لهذه الفاجعة في القوالب الأدبية التي تناسبه.

الفنانون العرب من الخليج إلى المحيط بكوا بيروت بأساليب مختلفة، سواء عبر صفحاتهم على مواقع التواصل أو عبر أغنيات جديدة لهم بدأ بعضها في الظهور والبعض الآخر تم الإعلان عنه، أو عبر حفلات غنائية لبيروت مثل التي نظمتها مدينة تونس وأحياها قبل أيام لطفي بوشناق وآخرين.

بيروت، ستعود شاغلة الدنيا وملهمة المبدعين وجاذبة الفنانين رغم أنف الحاقدين من ساسة الموت والخراب والدمار.

[email protected]

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.