رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

عندما يفيض النهر المقدس في صوت بشري : ألف زهرة لأبي زهرة

كرمة سامي

بقلم : كرمة سامي

لا أحب أفلام الكارتون! نعم ! ، ولم أحب – عفوا – “الأسد الملك” (1994)، لكن شاهدته خصيصا كي أسمع بأذنيّ ما فعله چيريمي أيرونز بشخصية سكار الأسد الذى يحمل على كتفيه مشاكل نفسية ينوء بها فيلم ترفيهي لكل أفرد الأسرة. أكن تقديرا خاصا لموهبة أيرونز منذ أن شاهدته بحكم تخصصي في سيناريوهات هارولد پنتر يلعب بطولة “إمرأة الملازم الفرنسي” (1981) أمام ميرل ستريپ، هكذا شاهدت فيلم ديزني إكراما لأداء أيرونز الصوتي ووفاء لتراثي الشيكسبيري .. وبالطبع لم أندم!

ثم ظهرت النسخة العربية من فيلم ديزني إخراج العبقري عصام السيد الذى تأكدت عبقريته بداية من اختياره المواهب الصوتية التى تتناسب مع كل دور وتعادل الأداء الأصلي لكل نجم من نجوم الفيلم باللغة الإنجليزية. ومن اختار عصام السيد ليكون ندا ومعادلا لچيريمي أيرونز أحد أهم فناني الأداء في الغرب؟ نجمنا القدير عبدالرحمن أبو زهرة، اختيار ماكر زاد توق الباحث الدرامي لمشاهدة الفيلم ومتابعة مباراة عالمية في الأداء تماثلت في ذهني مع  حماس المواطن الذي سيشاهد مباراة بين فريقه القومي وفريق أجنبي! لهذا حرصت على مشاهدة الفيلم مدبلجا وأنا واثقة أن المقارنة بين الأدائين ستضيف مؤكدا إلى خبراتي في دراسة الأداء الدرامي وتحليله.

بالمناسبة، لم يكن البطل في فيلم ديزني سيمبا وإنما سكار، فهو الذى يحرك الأحداث والذى يبهر المشاهد ويحيره بنفس معذبة بفتح الذال وكسرها. ينتهي الفيلم ويترك سكار أسئلة محيرة دون أجوبة داخل نفس المتفرج الواعي برغم النهاية “السعيدة”! سكار هو مفتاح الدراما وجوهرها ومحورها وواجهتها!

أجاد التلوين الصوتي في مختلف الشخصيات التي قدمها إذاعيا

شاهدت الفيلم لأسمع بأذنيّ كيف اقتنص عبدالرحمن أبو زهرة سكار وطار به في آفاق لم أتخيلها متجاوزا ما وصل إليه چيريمي أيرونز من قمة. أدى أيرونز سكار بروح لورد إنجليزى أو كأنه الملك جون – أحد رموز الشر في الملكية البريطانية – الذي اغتصب عرش أخيه الملك ريتشارد قلب الأسد في غيابه في الحروب الصليبية، لكن مع أبي زهرة عادت إلى سكار أفريقيته وسخونته فلم يعد هجينا أو باردا! ليس انتقاصا من قدر براعة أيرونز – حاشالله – لكنها شهادة حق لممثل مصري لم نعرفه عبر تاريخه إلا بارعا متميزا في أدواره.

السؤال: لماذا تفوق عبدالرحمن أبو زهرة على چيريمي أيرونز بسهولة؟ هل كان حوار عبدالرحمن شوقي وسحر اللغة العربية التي احتضنها أبو زهرة بصوته وسخر لها مخارج ألفاظه القوية؟ أم تحكمه في طبقات صوته الذى “تأبلس” لينطوي على وسوسة هى عنوان شخصية سكار وبصمتها الرئيسة؟ أم تطويعه لصوته البشري ليترجم زئير سكار إلى لغة بينية ثالثة تحمل ملامح صوت الإنسان والأسد معا في ‘نَفَس’ واحد؟ أم عبقرية هذا الصوت الذي تعبر رناته المتلونة عبر كل فِمتوثانية عن العظمة والخسة والضعف والقوة؟ أم الغضب المكتوم الذى ينفجر في حمم بركانية صوتية؟ أم هى البركة التي أفاض بها الله على فنان مصري عالمي خلوق؟ أم هي كل العناصر المذكورة آنفا التى تلخص ثمرة جهاد عبدالرحمن أبو زهرة في الفن.

هل كان عبدالرحمن أبو زهرة بحاجة إلى سكار في “الأسد الملك” أو جعفر في “علاء الدين” ليعيد الجمهور العربي اكتشافه؟، ومن منا ينسى أدواره الفارقة في “زهرة الصبار” و”أرض الخوف” و”لن أعيش في جلباب أبي” وغيرها؟!. موهبة عبدالرحمن أبو زهرة فياضة مثل نهر النيل الذي يجري في أرض بلادنا فيشعرنا بالأمان ويصبح جزءا من المشهد التاريخى والجغرافي الذى نعيشه ولا نتحدث عنه لأنه وجود دائم وثابت في حياتنا.

عندما فازت ميريل ستريپ بجائزة الأوسكار عام 2012 عن فيلم “المرأة الحديدية” اختصت بالشكر أولا: زوجها ثم ثانيا: من أسمته (شريكها الثاني) چ روي هِلاند مصفف شعرها وماكييرها الخاص منذ فيلمها “اختيار صوفي” (1982)، طبعا هِلاند لم يعمل وحده على عملية تحويل ستريپ، كان يقود فريقا من الفنانين والفنيين تعاونوا معا على الأسنان والوجه والشعر لتصبح ستريپ أمام الكاميرا مارجريت ثاتشر!

أفيش مسلسل على الزيبق الذي أتقن أدواره فيه ببراعة

خلف الميكروفون الوضع مختلف! لماذا تذكرت كلمة ستريپ عندما استمعت إلى مسلسل “علي الزيبق” إعداد ميخائيل رومان لقصة فاروق خورشيد وإخراج إسماعيل العادلي؟ في هذا العمل الذهبي تجسد أصوات ممثلين بارعين العالم الدرامي للسيرة الشعبية، وتتجلى متعة الإبهار الترفيهية في أصوات العملاقتين زوزو نبيل وإحسان القلعاوي ومعهما عبدالعزيز غنيم وفرج النحاس ورشدي المهدي مع كوكبة من فرسان الإذاعة المصرية العظيمة، وسط هذه الكوكبة يتألق الفنان الشاب عبدالرحمن أبو زهرة مؤديا دور على الزيبق حيث يلخص ويختزل ويجسد بمفرده عدة عناصر فنية من شعر وماكياج وملابس وإكسسوار وحركة في صوته في أداء بشري خارق للطبيعة!

في هذا العمل المبكر في حياة أبي زهرة تنكشف آفاق موهبته، فهو لا يلعب دور أشطر الشطار المقدم علي الزيبق الذي تفرد بالشطارة والزلاقة فحسب، بل يلعب عدة أدوار متباينة تباعا واحدا تلو الآخر في تواز مع أدائه لدور علي الزيبق محافظا على تغيراته وتطوراته من نهايات المراهقة إلى بواكير الشباب وعبر حالاته المختلفة من حيرة المراهق وطاعة الابن وتمرد الثائر وغضب طالب الثأر ورومانسية العاشق.

يصدر كل هذا من حنجرة بشرية واحدة، وكأنها دمية خشبية كبيرة تخرج منها دمى صغيرة متناقصة فهو علي الزيبق ولكنه أيضا اسم على مسمى، فهو مثل طبيعته الكيميائية معدن ولكنه سائل، مراوغ ومتلون، فتراه بـ (أذنيك) متقمصا عدة شخوص مؤثرة في مسار الدراما، فهو الفلاح الطويل الماكر ذو القلب الحديد الذي سرق العجل من الأزعر ثم باعه في المزاد للمقدم صلاح الكلبي، وهو صبي الطباخ اللين الذي يحمل صوته بقايا طفولة، ويمط الكلام كأنه في حالة تثاؤب مستديمة، شكاء، أبله وماكر! وهو الجارية اللعوب ذات الصوت الخشن التي أوسعت الكلبي ضربا! والحمامي طلق اللسان سريع الكلام الذي ينثر الزجاج ليخترق أقدام الكلبي والزعران الحافية! وهو أيضا الطبيب شميعة العجوز الأخنف المكابر بعلمه! وهو أم الحاج جابر العطار المسنة التي تتحدث بفم خال من الأسنان وتبيع للكلبي حنة تذيب لحيته وشاربه! وبائع السوق العجوز الذي تجاوز الثمانين عاما الذى يحمل خُرجا به مسروقات ويتظاهر بالبراءة! وبائع التفاح البكاء الذي سُرق منه تفاحه وحماره! وأخيرا جلنار جارية العزيز المتدللة المراوغة التي تحمل في خُرج على حمارها دليلة المحتالة مخدرة وذليلة!

على منصات التتويج التي تليق بكل أعماله

من هذا المنطلق في الأداء الدرامي الصوتي نجد الفنان عبدالرحمن أبو زهرة أصبح راويا للسير الشعبية من نوع خاص إذ يجسد السيرة بموهبته الصوتية الاستثنائية. في المجمل لعب أبو زهرة بصوته في حلقات المسلسل – إلى جانب شخصية الثائر القاهري ابن البلد علي الزيبق – تسع شخصيات متباينة في النوع والطبع والسن والطبقة، تميزت كل شخصية بملامح صوتية فكاهية كاريكاتورية وأداء خاص ينقل للمستمع إحساسا بالشكل والملبس والحركة والسن. أضافت كل شخصية يتحول إليها الزيبق لكوميديا الصراع الثأري المتمحور رمزا حول “حساب العجل مش حيخلص”، بذا يحيلنا العمل إلى فيلم “عنتر ولبلب” (1952) من حيث التشابه بينهما في جذور الصراع الدرامي بين ابن البلد والمستعمِر، وبهما معا يتأكد استلهام الفن السينمائي والإذاعي  للسير الشعبية التي تمدنا بفيض من الحكايا التي ترفه عنا وتفتح أعيننا.

كل هذا ولم نر من موهبة أبي زهرة سوى قمتها مثل جبل جليدي في المحيط.. كل هذا ونهر موهبته المقدس يسري من الجنوب إلى الشمال هادئا تارة، هادرا تارة أخرى، لكنه دائم وفياض وتنبت ألف زهرة على ضفتيه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.