رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

نزار قباني يهدد “نجاة” بطلبها في بيت الطاعة !

* الشاعر يرسل “أيظن”لنجاة في البريد

* إسماعيل الحبروك سبب تلحين القصيدة

* نهلة القدسي تحضر الحفل وعبدالوهاب يهرب

* صديق لعبدالوهاب يقول له:” أفتح الراديويا مجنون! اسمع مجدك بأذنيك”

مع نزار في تعاون جديد

كانت المطربة الرقيقة “نجاة” سببا في شهرة الشاعر الكبير “نزار قباني” على مستوى العالم العربي غنائيا، بعد أن أطلقت رائعته “أيظن” عام 1960، كان “نزار” قبل “أيظن” شأنه فى ذلك شأن كل شاعر، حبيس حدود ضيقة لا يتعداها، هى حدود المثقفين وأهل الشعر الحديث، فجاءت دافئة الصوت “نجاة” لتجعل الشرق يرقص طربا بلحن الموسيقار “محمد عبدالوهاب” لهذه القصيدة، وفجأة بات شعر “نزار” ضرورة لازمه، يقبل الصبايا والشبان على شراء دواوينه بحماس، ويمضون الساعات الطويلة فى قراءته.

عن علاقتها بالشاعر الراحل الكبير نزار قباني، تقول مطربتنا الكبيرة “نجاة” في حديث قديم لها في مجلة “الكواكب”: “تلقيت يوماً رسالة من الشاعر”نزار قباني”، الذى كانت تربطه علاقة صداقة بين عائلتي وعائلته، لكنها ربما لم تكن علاقة قوية بسبب بعد المكان، وجدت في ظرف الرسالة ورقة جميلة مكتوب عليها قصيدة شعرية باللغة العربية الفصحي مطلعها يقول: ” أيظن أني لعبة بيديه/ أنا لا أفكر فى الرجوع إليه”، أحسست بعد قراءة الكلمات كاملة، أن هناك كنزاً بين كلمات هذه القصيدة، ولكن العثور عليه كان يتطلب صعوبة كبيرة، ولكني حقيقة لم أتلقى القصيدة بارتياح كبير، لأن مفرداتها صعبة ولم يسبق لي أن غنيت فى تلك الفترة بتلك اللغة، فقدمتها للموسيقار”كمال الطويل” كي أسأله عنها وعن إمكانية تلحينها، فأجاب مستغرباً: إيه ده.. ومثله فعل الملحن “محمد الموجي”.

وتضيف نجاة: “وبالتالي شعرت بأن الموضوع لن يتم، وقررت أن أرسل القصيدة لصديقي الشاعر “إسماعيل الحبروك” رئيس تحرير جريدة الجمهورية، وصديق “نزار” لنشرها في جريدة الجمهورية تكريماً لصاحبها الذي أرسلها لي وخصني بها، وبعد نشرها فوجئت بـ”عبد الوهاب” يتصل بي ويقرأ لي القصيدة من الصحيفة ويسألني هل هذه القصيدة لك؟ فقلت له نعم، وكان يريد الاستفسار ما إذا كانت القصيـدة قد مرت على أو قرأتها، وسردت له ما جرى، وبعد شهر من هذه المكالمة، نسيت القصيدة وتحرجت من سؤال الأستاذ عنها، وفي أحد الأيام فوجئت بـ”عبدالوهاب” يدعوني لزيارته ليسمعني لحن البيت الأول فقط من القصيدة، وخلال أسبوع كان قد انتهى من تلحين الأبيات التسعة الأولى.

ثم أمضى فى تلحين البيتين الآخيرين أسبوعين كاملين، ودعاني بعد ذلك لأسمع منه اللحن كاملا، وسلمني شريطا مسجلا بصوته لأحفظ منه، وأثناء تلحينه للقصيدة فكر في تغيير أكثر من كلمة غير مألوفة فى القصيدة مثل “زنديه” و”دربه” ولكنه وجدا حرجا من التصرف فى القصيدة وصاحبها غائب.

وتستكمل “رحاب خالد” عاشقة نجاة خيط الكلام وتقول فى كتابها عن “القيثارة الحزينة”: أثناء ذلك كان نزار في بكين يعاني الغربة والحيرة، ويكتب إلى “إسماعيل الحبروك “خطابا يسأله: ” ماذا فعلت نجاة بأغنيتي؟ مزقتها؟ ضيعتها؟ أحرقتها؟ لا أعرف! إسألها وأكتب لي، لعلها لم تجد الجرأة لتقدمها إلى الناس، أو لعلها لم تجد الملحن الذى يجرؤ على نظم كلماتها”، يرد عليه “إسماعيل” يبشره بأن “نجاة” ستغني قصيدته أخيرا فى حفلة العيد، وعندئذ فقط اطمأن قلب نزار، أما “عبدالوهاب” فقد وضع يده على قلبه!، وقد نصحه بعض أصدقائه بأن يطلب من “نجاة” ألا تغني القصيدة فى حفلة عامة فيها ألوان من الغناء الخفيف، لأن الجمهور قد لا يتابعها بالحماس أو الرضا، ولما حدثها عن مخاوفه، وكانت خائفه أكثر منه، قررت أن تغلب بالاجتهاد خوفه وخوفها، فتبذل فى البروفات جهدا عظيما طوال شهر رمضان، وفى ليلة القدر تسأل الله التوفيق.

كواليس حفل “أيظن”

وفى ليلة العيد الأحد 27 مارس عام 1960 كان مؤشر الراديو في بيوت الملايين مثبتا على صوت العرب، وقد انتقل الميكرفون إلى إذاعة خارجية من مسرح سينما “ريفولي”، حيث قدم “عبدالحليم حافظ” مجموعة من أغنياته القديمة، وأغنيته الجديدة “جواب” قبل قليل، والآن تقدم “صباح” مجموعة من أغنياتها المعروفة وتختم فقرتها بأغنيتها الجديدة أيضا “الحلو لية تقلان قوي”.

بينما “نجاة ” فى الكواليس تتدثر بفراء أبيض يرتجف تحته ثوب من الساتان القرمزي، وتنتظر دورها بصبر مع الإذاعي “جلال معوض”، وفى الصالة ينتظرها أكثر من ألفين وخمسمائة مستمع بينهم السيدة “نهلة القدسي” زوجة “عبدالوهاب”، تجلس في الصف الأول وإلى جوارها مقعد واحد خال، فـ”عبدالوهاب” يهاب سماع ألحانه عند إذاعتها لأول مرة، وغالبا ما يتراجع عن حضور الحفلات في اللحطة الأخيرة، فيشتري تذكرتين، ثم يرسل زوجته فقط، ويوصي أصدقائه بأن يستمعوا إلى الراديو، ثم يغلق على نفسه باب حجرته.

بكاء عبدالوهاب

أثناء إذاعة الحفل وفى الساعة الثانية عشر كان عبدالوهاب في بيته يروح ويجيئ، وزوجته فى صالة سينما” ريفولي” تدخن بعصبية السيجارة تلو الأخرى، وأمامها “نجاة” على المسرح تخطو بحذر وسط التصفيق والهتاف، والجمهور يطالبها بأغنيتها “وحدية” و”أما غريبة” وغيرهما، وبعد المقدمة الموسيقية التى بدت لها طويلة جدا يخرج صوتها كتنهيدات خفيفة مترددة:

” أيظن أني لعبة بيديه / أنا لا أفكر فى الرجوع إليه”

ولا يسمع الجمهور أول كلمات القصيدة جيدا، فتجتهد نجاة لاستعادة أنفاسها الهاربة، وتعيد أول بيت بصوت أوضح ثم تغمض عينيها وتستكمل بقية الأبيات، وتنتهي من المقطع الأول فتبقى عينيها مغمضتين للحظة، ولا تفتحهما إلا على صوت التصفيق الجبار الذى يؤكد لها أن الأغنية ستنجح، فيذهب عنها الخوف، وتعيش الكلمات بكل إنفعالاتها، تعاتب، وترجو وتشتاق، ترتعش وتضيئ، والنشوة تهز كل خلية في جسدها، ثم يرقص صوتها فرحا وهى تغني “حتى فساتيني التى أهملتها فرحت به، رقصت على قدميه”، وعند البيت الذى يقول “وبكيت ساعات على كتفيه” تبتل عيونها فعلا بالدموع.

وأثناء إذاعة الأغنية آتي نزار براديو ومضي يقلب المؤشرعلي كل المحطات عله يفلح في العثورعلي إذاعة القاهرة لكنه لم يفلح!، وفي نفس اللحظة لكن في القاهرة يتصل بـ”عبدالوهاب” أحد أصدقائه يقول له : ” أفتح الراديو يا مجنون! اسمع مجدك بأذنيك”، لكن عبدالوهاب أصر على ألا يسمع إلا في اليوم التالي، وظل طوال الليل إلى جوار التليفون يتلقى تهاني أصدقائه ومعجبيه حتى السادسة صباحا، ثم وجد نفسه يتصل بـ”نجاة” يسألها: بتعملي أيه يا نجاة؟ فأجابته بصوت يكاد يلهث من الفرحة: لسه لابسه فستان الحفلة ولم أنم لحظة واحدة من تليفونات المعجبين والمعجبات، فأمسكت “نهلة القدسي” بسماعة التليفون وقالت لنجاة: تعالي عندنا فورا لنسمع التسجيل معا، وفى السابعة صباحا يستمع عبدالوهاب إلى الأغنية مع نجاة، ثم يبكي وحده، أما هى فقد كانت سعيدة بالمجد الذى ظلت تبحث عنه حتى وجدها أو جاءها طائرا من بكين.

زلزال أيظن

وتأتي استجابة الجمهور لهذه الأغنية أسرع وأقوى مما قد يتوقع إنسان، فالمستمعون يطلبونها عبر التليفون والتلغراف والبريد، ومؤشر الراديو فى كل بيت يطاردها من محطة إلى أخرى، والملايين يغنونها فى البيوت والشوارع والسهرات بالسهولة التى يغنون بها أي أغنية عامية، وفى كل الإذاعات والصحف العربية تصبح أغنية نجاة هى موضوع كل يوم.

تعيد سماع اسطوانة أيظن من جديد

رسائل تهديد من نزار لنجاة

وفى هذه الأثناء ظل نزار في بكين يتلقى التهنئة على أغنية لم يسمعها، فكتب إلى نجاة يقول: “أيتها الصديقة الغالية لا أزال فى آخر الدنيا أنتظر الشريط الذى يحمل أغنيتنا “أيظن”، إنها تعيش فى الصحف، فى السهرات، وعلى شفاه الأدباء، وفى كل زواية فى الأرض العربية، وأبقى أنا محروما من الأحرف التى أكلت أعصابي، يالك من أم قاسية يا نجاة، أريت المولود الجميل لكل إنسان وتغنيت بجماله فى كل مكان وتركت أباه يشرب الشاي في بكين، ويحلم بطفل أزرق العينين يعيش مع أمه فى القاهرة، لا تضحكي يا نجاة إذا طلبت ممارسة أبوتي، فأنا لا يمكن أن أقتنع بتلقي رسائل التهنئة بالمولود دون أن أراه، فانهضي حالا لدى وصول رسالتي، وضعي المولود في طرد بريد صغير وابعثي به إلى عنواني، إذا فعلت هذا كنت أما عن حق وحقيقي، أما إذا تمردت فسأطلبك إلى بيت الطاعة رغم معرفتي أنك تكرهينه”.

وبعد شهر تقريبا يأتيه الملحق العسكري ليسلمه شريطا وصل إليه من نجاة، فيدعو زملائه إلى حفلة في السفارة لسماع أغنيته، ثم يتضح أن سرعة تسجيل الشريط تختلف عن سرعة جهاز الإستماع فيلجأ إلى استديوهات إذاعة بكين ليستمع إلى قصيدته لأول مرة بعد شهرين من إذاعتها بالقاهرة.

وبعد شهور قليلة من إذاعة القصيدة تستقبل القاهرة شاعر”أيظن” استقبال الفاتحين، ويلاحقه المعجبون في كل مكان، وكاميرات المصورين وأقلام الصحافيين.

ومن ناحية أخرى وقع الاختيارعلى هذه الأغنية بالذات كأجمل أغنية عربية على الإطلاق بالنسبة لمجموع الأغاني العربية التي ظهرت في السنة نفسها التي ظهرت فيها أغنية “أيظن”، وقد جرى ذلك الاختيار ضمن المسابقة الفنية التي نظمتها احدى الهيئات الفنية والثقافية في لبنان في الستينيات.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.